Thursday 31 July 2025
خارج الحدود

صورية موقيت: بين تقليص التنمية وتضخم التسلّح.. هل تتخلى ألمانيا عن مسؤوليتها التاريخية في زمن الأزمات؟

صورية موقيت: بين تقليص التنمية وتضخم التسلّح.. هل تتخلى ألمانيا عن مسؤوليتها التاريخية في زمن الأزمات؟ د صورية موقيت

صادق مجلس الوزراء الألماني على مشروع الموازنة العامة، والذي يتضمن تخفيضًا كبيرًا في ميزانية وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية، أي بنسبة 8٪، مع تقليص المساعدات الإنسانية بأكثر من 50٪. وقد أثارت هذه التخفيضات انتقادات واسعة من منظمات المجتمع المدني، التي حذّرت من آثارها على جهود الوقاية والتنمية في الجنوب المعولم، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والأمن الغذائي والمساواة. كما يُخشى أن يؤدي هذا التراجع إلى تقويض نفوذ ألمانيا الدولي وترك فراغ تملؤه قوى استبدادية. وتأتي هذه السياسة في سياق دولي مشابه، حيث خفّضت بريطانيا والولايات المتحدة بشكل كبير مساعداتهما التنموية، مما يهدد بأزمات إنسانية كبرى ويقوّض أهداف التنمية المستدامة.

في نهاية شهر يونيو، انعقد في مدينة إشبيلية المؤتمر الرابع للأمم المتحدة لتمويل التنمية – وهو قمة عالمية تُعنى بقضايا الفقر، والعدالة المناخية، واللامساواة البنيوية. وبينما كان يُناقش هناك مفهوم التضامن العالمي بجدية، تشهد أوروبا وألمانيا تراجعًا مقلقًا: يتميز بطغيان الأنانية الوطنية، وتقليص ميزانيات التعاون الدولي بشكل جذري، وتأجيل النظر في المسؤولية السياسية إلى ما لا نهاية.

تقف ألمانيا اليوم عند مفترق طرق تاريخي: هل ستسهم فعليًا في بناء نظام عالمي عادل في مرحلة ما بعد الاستعمار؟ أم أنها ستواصل التمسك بمنطق القوة القصير النظر والتفكير التقليدي؟

لم تكن سياسة جلب "العمال الضيوف" في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي فصلًا عابرًا من فصول التاريخ، بل كانت نتيجة مباشرة لعقود من الاستغلال الاستعماري والتبعيات الاقتصادية. لقد استفادت الصناعة الألمانية بشكل كبير من الأزمات التي عصفت ببلدان منشأ هؤلاء العمال – ومع ذلك، لا يزال النقاش حول هذه الخلفيات التاريخية العميقة شبه غائب حتى اليوم. ما زالت الهجرة تُختزل في ألمانيا إلى مجرد أداة لخدمة سوق العمل، تُحوِّل الإنسان إلى "كفاءة مهنية" لا أكثر، وتُخفي عن وعيٍ اختلالات موازين القوى التي لا تزال قائمة حتى الآن. هذا التجاهل يكشف بوضوح مقلق أننا لم نتعلم شيئًا من التاريخ، بل نعيد تكرار الأخطاء القديمة على حساب كرامة الإنسان والعدالة العالمية. من يناقش قضية الهجرة دون أن يستحضر هذه الخلفية التاريخية، يغفل جوهر المشكلة. فالمسألة لا تتعلق فقط بالكفاءات المهنية، بل تتعلق بالعدالة، وبإعادة النظر الجذرية في اختلال موازين القوى على المستوى العالمي.

 

الهجرة ليست ورشة لإصلاح الأعطاب

بعد أكثر من نصف قرن، تقف العديد من دول الجنوب المعولم وألمانيا من جديد عند مفترق طرق حاسم: إذ من المتوقع أن يخرج أكثر من 12 مليون شخص نشيط مما يسمى بجيل الطفرة السكانية إلى التقاعد في ألمانيا بحلول عام 2035. وفي عام 2024 وحده، ظلت نحو 1.7 مليون وظيفة شاغرة – خاصة في مجالات الرعاية الصحية، والحرف اليدوية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والمطاعم.

هاتان الحقيقتان مترابطتان على نحو بنيوي: فألمانيا بحاجة ماسة إلى قوى عاملة مؤهلة، بينما يبحث الشباب في بلدان الجنوب المعولم عن آفاق جديدة وفرص للحياة. هنا يمكن أن تؤدي الهجرة دور الجسر، إذا ما أُديرت بشكل عادل سياسيًا واجتماعيًا – لا باعتبارها هروبًا من الحاجة، بل كتنقلٍ يحمل رؤية لمستقبل أفضل.

لكن الواقع مختلف تمامًا: فرغم الاتفاقيات الثنائية، مثل تلك الموقعة مع المغرب، لم يصل إلى ألمانيا سوى عدد قليل من الكفاءات فعليًا – حوالي 2000 فقط خلال السنوات الأخيرة. لماذا؟ لأن السفارات تعاني من ضغط كبير، ومواعيد التأشيرات نادرة، ومعالجة الطلبات متعثرة. كما أن لمّ الشمل العائلي مؤجل لسنوات، وبعض العائلات تنتظر أكثر من عامين للحصول على موعد. هكذا تصبح العقبات البيروقراطية أداة لخنق مسار هجرة اليد العاملة، رغم أنه مسار منطقي وضروري في الأصل.

 

المهاجرون فاعلون سياسيون واقتصاديون

لا يُمكن اختزال المهاجرين إلى مجرد قوة عمل قابلة للاستبدال، فهم فاعلون محوريون ضمن شبكة عالمية مترابطة. في عام 2024، تدفقت تحويلات مالية خاصة إلى الدول الإفريقية بلغت نحو 100 مليار دولار أمريكي – أي ما يعادل عشرة أضعاف ميزانية وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية. هذه الأموال تُموّل التعليم والرعاية الصحية والاستقلال الاقتصادي المحلي، من القاعدة إلى القمة، وليس من أعلى إلى أسفل. ومع ذلك، تتعامل برلين مع الهجرة كما لو أنها ظاهرة استثنائية يمكن "حلّها" من خلال الإدارة والضبط فقط. هذه النظرة بعيدة كل البعد عن الواقع، وتشكل خطرًا سياسيًا حقيقيًا، إذ إنها تعيد إنتاج منطق السيطرة الاستعماري بدلًا من التعاون والتضامن.

 

من يخفض الإنفاق على التنمية ويزيد التسلّح، يكرّس اللا مساواة

في الوقت الذي ناقشت فيه قمة إشبيلية مبادئ التضامن العالمي، قامت  الحكومة الألمانية بتقليص ميزانية وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية.

 فمشروع الموازنة الاتحادية لعام 2025، بالكاد خصص 10 مليار يورو، مقارنة بـ 11.2 مليار يورو في عام 2024. في المقابل، ترتفع النفقات العسكرية إلى أكثر من 82 مليار يورو.

من يعطي الأولوية للتسلّح على حساب التنمية يكرّس أنماط تفكير إمبريالية قديمة. ومن يرى في اللاجئين والمهاجرين تهديدًا ويبني الأسوار، يتجاهل الأسباب الحقيقية للجوء والهجرة، ويتنصّل من المسؤولية العالمية.

اعتبارًا من 1 يوليوز 2025، تولت الدنمارك رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي تحت شعار: "أوروبا قوية في عالم متغيّر".

غير أن رئيسة الوزراء ميته فريدريكسن، العضوة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الدنماركي والمعروفة بسياساتها المتشددة في ملف الهجرة، تعتزم مواصلة هذا النهج على المستوى الأوروبي.

إذ تعتمد الدنمارك على رقابة صارمة للحدود وتخطط لإنشاء مراكز لطلب اللجوء خارج حدود الاتحاد الأوروبي ـ وهي سياسة تتعارض بشكل مباشر مع مبادئ التضامن العالمي.

 

الهجرة العمالية المناهضة للاستعمار: حان الوقت لتحول جذري

بحلول عام 2035، سيخرج أكثر من 12 مليون عامل في ألمانيا إلى التقاعد، بينما يبقى ملايين الشباب في دول مثل المغرب والسنغال ونيجيريا بلا آفاق واضحة.
هذه الاختلالات ليست قوى طبيعية، بل نتاج علاقات القوة العالمية – وقابلة للتغيير.


لقد حان الوقت لإجراء تحول سياسي جذري ومناهض للاستعمار:

 

  1. إعادة التفكير في سياسة التنمية: التركيز على التنقل والمشاركة العادلة بدلًا من توظيف العمالة الأحادي الجانب. تعزيز الشراكات المتكافئة، ودعم التعليم والاعتراف في بلدان الأصل، وضمان احترام حقوق الإنسان على طول سلسلة الهجرة.
  2. الاعتراف بمجتمعات الهجرة كقوة سياسية:  دمج المنظمات المهاجرة مؤسساتيًا، دعم التحويلات المالية الاستراتيجية، وتمكين الهجرة الدائرية مع ضمان حقوق العودة وإعادة الاندماج.
  3. ضمان التناسق ما بعد الاستعماري: توظيف عادل، ضمان الحقوق الاجتماعية، تسهيل لم شمل الأسر، وربط الاستدامة بسياسة الهجرة.
  4. تحول في السياسة المالية: إعادة توجيه الأموال من النفقات العسكرية إلى التعليم، التنمية المستدامة، والشراكات العادلة.

 

الهجرة تحتاج إلى بنيات هيكلية دائمة بدلًا من برامج مؤقتة

هناك العديد من البرامج الجيدة التي تقدم أعمالًا رائدة، لكنها تبقى محدودة التأثير بسبب نقص الموارد. ما ينقص هو هيكل مؤسسي دائم للهجرة العمالية كمسؤولية استراتيجية مشتركة، يتضمن:

  • توظيف شفاف ورقمي
  • الاعتراف بالمؤهلات
  • الحماية الاجتماعية والمشاركة في عين المكان

 

الشراكة الحقيقية تبدأ بالمواقف

الهجرة ليست أزمة، بل جزء من الحل. طالما يتم التعامل معها كعامل تكلفة أو خطر أمني، تبقى إمكانياتها غير مستغلة. هناك حاجة إلى تغيير جذري في النموذج الفكري – بعيدًا عن أنماط السلطة الاستعمارية، ونحو التضامن العالمي والمشاركة العادلة.

على ألمانيا أن تختار الآن: هل ستظل مستفيدة من التنقل العالمي وتلعب دور القوة غير المتكافئة، أم ستتقدم كشريك موثوق لسياسة هجرة تضامنية، مناهضة للاستعمار، ومستدامة؟

إذا كان هذا هو الهدف، يجب على وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تتولى دورًا مركزيًا في إعادة صياغة وتنفيذ سياسة هجرة تضامنية، مناهضة للاستعمار، ومستدامة.