الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: استباحة النساء، ذنبٌ أصلي

دلال البزري: استباحة النساء، ذنبٌ أصلي

المراقبون والمواطنون الألمان سارعوا إلى إتهام عرب مسلمين، ولاجئين سوريين خصوصاً، في عملية التحرّش الجنسي الجماعي التي "نظّمتها" مجموعة من الشبان ضد ألمانيات كن يحتفلن بليلة رأس السنة، في مدينة كولون، وبغلاظة أقل في هامبورغ وشتوتغارت. النوايا السيئة، والنزعة العنصرية ساهمت في تيسير الاتهام؛ ولكن، أيضاً، أول التحقيقات لم ينفِ التهمة، وإن انصبّت على غالبية مغربية وجزائرية، ولاجئ سوري واحد، حتى الآن.

لماذا هذا الاستسهال؟ وهل هو افتراء محْض؟ هل كان مجرّد ميل عنصري عميق لدى الألمان وغيرهم من الأوروبيين، لتحميل كل عربي مسلم وزر جنح وجرائم هو براء منها؟ الأرجح أن العالم العربي المسلم ساهم بنشاط في ترسيخ تلك الصورة السلبية التي يحملها عن النساء، عن كيفية التعامل معهن، وعن التصور الذي يملي خطوطه على هذا التعامل.

ليس فقط ممارسات "داعش" إزاء النساء، والتي اقتصرت على تصعيد أوجه استباحتهم لهن إلى أعلى الدرجات: بالسبي، والاغتصاب، وفرض النقاب، ورجم "الزانية"، والمنع من الخروج، والفصل الاعتباطي بين الجنسين الخ.. وكلها ممارسات لم تفنّدها بدقة مراجع فقهية أو دينية، بنداً بنداً، وتقول بها كلمة سواء. إذ لا يمكنها ذلك دون خروجها من جلدتها. أقول، ليس ممارسات "داعش" وحسب، هي التي صدّرت هذه الصورة عن علاقة المسلمين العرب بالمرأة. إنما أيضاً، الوقائع نفسها، الحاصلة في الشارع العربي المسلم، تؤكد على تلك العلاقة المبتذلة بها.

خذْ مثلا واحداً، هو الأكثف تعبيراً: في ربيع 2006، في القاهرة، وفي الليالي الأولى من إجازة عيد الفطر، هاجم رهطٌ من مئة رجل تقريباً كل السيدات المتواجدات في شارع طلعة حرب وكورنيش النيل، انتزعوا ملابسهن، هتكوا عرضهن، داسوا على أجسادهن، كل هذا أمام أعين الشرطة والمارة؛ وهم لم يعفوا منقّبة أو محجبة أو سافرة، إلا إذا كانت برفقة رجل. الإعلام الرسمي لم يكشف عن هذه "الحادثة"، إنما واحد من أصحاب المدوّنات الإلكترونية. وعندما ذاع الخبر، أخذت التعليقات المنحى التقليدي: اتهمت النساء بجريمة "التعرّي" و"إثارة الرجال"، والخروج من البيت "في هذا الوقت من الليل" الخ. مضت "الحادثة" من دون محاسبة ولا عقاب؛ لذلك عادت وتكرّرت في أنحاء الجمهورية، بعد الثورة حتى، وقد هوّنت تجمعاتها الحاشدة أمر التحرش الجنسي المنظّم وغير المنظّم، الذي لا يطاله أي عقاب. هذه العينة لا تقتصر على القاهرة؛ تجد مروحة من تنويعاتها المختلفة في كل عاصمة ومدينة عربية، تصحبها تلك النظرة السوقية للمرأة، التي لا تحترم كيانها ولا روحها، ناهيك عن جسدها.

سوف يقول قائل بأن الغرب أيضاً فيه تحرش واغتصاب، وأن النسبة المرتفعة في البعض منه لا يشرّفه. صحيح هذا الكلام، جزئياً. وليكتمل، عليكَ أن تضيف بأن التحرش والاغتصاب يحصلان في الغرف المغلقة، بعيدا عن عين المجتمع والقانون. فالفكر السائد في الغرب، هو إجلال النساء، وتقدير خروجهن وعملهن وإنجازاتهن، بل احترام قيادتهن للمجتمع (وإن كان يناقض نفسه في الصميم عندما يعرّي جسدهن لأغراض تسويقية). هذا الفكر فرضَ على المشرّع الغربي سنّ قوانين تحميهن من الذئاب البشرية، قوانين تحكم على التحرّش والاغتصاب بصفتهما جنحاً وجرائم، وتقيم لهما عقوبات محدّدة، خاضعة للتحسين والتطوير كلما حصل ما يفرضهما.

خذْ مثلا جوليان أسانج، صاحب مأثرة "ويكيليكس"؛ بعد تفجيره للفضيحة، وتكريسه بطلا كونياً، هرب أسانج من السويد ولجأ إلى سفارة البيرو في لندن، لسبب قد يبدو سخيفا عند بعضنا: إنه تحرّش بمواطنتين سويديتين، واحدة منهن كانت الأكثر تضررا، فرفعت دعوى ضده، انضمت إليها الثانية. الموضوع ليس مزحة سمجة، أو دعابة. فرضت الملاحقة القانونية على "البطل" أسانج مصيراً بائسًا: الإقامة الجبرية في سفارة البيرو لأكثر من ثلاث سنوات... ولو خرج منها، تكون الشرطة اللندنية له بالمرصاد لتعيده إلى السويد، حيث يفترض أن يُحاكَم.

الآن، قارن بين حادثة أسانج، وكل دلالاتها، وبين الموضوعات التي فرضها المهاجرون العرب المسلمون، بعدما تزايد عددهم في دول الغرب، خلال السنوات العشرين الأخيرة. هي الموضوعات نفسها التي تمرّ علينا هنا، مرور الكِرام: حجاب النساء، وأحيانا نقابهن، الزيجات بالإكراه، تزويج القاصرات، ختان البنات، تعدّد الزوجات، الفصل بين الجنسين... وهذه الموضوعات، قد يقلّ بعضها هنا، ليزخم هناك، بحسب تموجات السياقات، موجة تلو الأخرى. ولكن المؤكد أنها مكّنت أهل الغرب من تكوين صورة عن وضعية النساء في المجتمعات الأصلية، ليست خاطئة تماماً؛ مع أن القصة لا تقتصر على "الصورة"، بل هو الواقع، هو المُعاش اليومي.

من واجبنا الدفاع عن حقوق اللاجئين إلى أوطان الغرب. وليس من حقنا أن نسترسل بدفاعات تلك الفئة اليسارية من الأوروبيين، المعادية للعنصرية والإسلاموفوبيا، التي تريد التحرّر من ذنبها الاستعماري، أو ذنبها بالازدهار والأمان، بأن تعود فتؤكد أوتوماتيكيا على براءة ثقافتنا من أي عيب. وهذه على كل حال نظرة استشراقية، تقول بعدم مسؤوليتنا عن اضطرابنا مع عصرنا، أي تنفي حريتنا. خصوصاً في ما يتعلق بتلك المسألة العظيمة، مسألة النساء.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)