لا يخفى على أحد أن مهرجانات المغرب السينمائية التي تزيد عن سبعين مهرجانا وتظاهرة تقام على مدار كل سنتين، تتكدس جلها في حزام جغرافي يرتبط بما أسماه المستعمر “المغرب النافع”، والحال كذلك فإن المهرجانات السينمائية والثقافية والفنية تظل مكسبا تاريخيا لدى المغاربة، نظرا لارتباطها بطقوس الاحتفال التي تكرس ثقافة فن العيش الضاربة في القدم، والانتصار للحياة.
وهي أيضا فرصة للترويج الاقتصادي والسياحي بالرغم من أن الانتهازيين وقناصي الفرص والفاشلين في التعليم والسياسة، قد حولوا بعضها إلى ضرب من العبث، وباتوا يخربون صورة البلد بتصرفاتهم غير المسؤولة.
أقول هذا، بمناسبة لقاء مع صديق سينمائي من بلد عربي عزيز، أراد أن يتجاذب معي أطراف الحديث بخصوص قيمة جوائز بعض التظاهرات والملتقيات والفعاليات والأنشطة السينمائية التي تريد أن تسمي نفسها ضدّا لمعطيات واقع المهرجانات.
فليس كل من عرض فيلما غير مغربي أو استضاف شخصا من الخارج جديرا بحمل الصفة الدولية، وإنما يتعلق الأمر بمدى مصداقية إدارة المهرجان، وتراكم تجربته، وكفاءة إطاراته، وغنى برنامجه، وتميز فقراته، ونزاهة جوائزه، تلك التي أصبحت توزع -في غالبيتها- دون معايير معينة.
صار المشرفون على بعض الأنشطة السينمائية يجعلون من الجوائز ذريعة لاستجلاب الداعمين والمحتضنين والمستشهرين، فأضحوا يوزعون دروعا بلاستيكية وخشبية ومعدنية رخيصة لا تتوفر غالبيتها على أية جمالية أو خصوصية، بحكم لجوء غالبية الجهات المنظمة إلى اقتنائها جاهزة حتى صارت بعض ألعاب عاشوراء و”قشاوشها” أغلى منها.
جوائز بلا عنوان
يشتكي بعض الفائزين، من الداخل والخارج، بجوائز بعض المهرجانات المغربية من عدم توصلهم بقيمتها المالية، بل إن مدراء بعض “المهرجانات” صاروا متخصصين بالتحكم في الجوائز التي تمنحها لجان يشكلونها على المقاس الشخصي لأفلام من قارات أو دول بعيدة لم يتمكن أصحابها من حضور فعاليات بعض “المهرجانات الدولية”، كي يتسنى لهم الاحتفاظ بقيمة الجوائز لحاجة في أنفسهم، وشكاوى ذوي الحقوق عديدة في هذا الباب، خاصة وأن أخبار بعضها قد وصل إلى الجهات المعنية، وبعضها الآخر تلوكه الألسنة هنا وهناك.
وفي سياق آخر، تنظم بعض “المهرجانات” مسابقات في السيناريو، إذ تنتخب ثلة من الأسماء للفرز والقراءة والتحكيم، إلاّ أن بعض المنظمين يقومون بمثل هذه الأنشطة صوريا، ولا يقدمون المشاريع لتلك اللجان، وإن حصل ذلك فلا يمنحون الجوائز المادية أو يقومون بتنفيذ تصوير تلك المشاريع الفيلمية.
وإن صوروها ففي أقسى الظروف وأسوئها، وكأنهم يتخلصون من أصحابها بتلك الطريقة المتحايلة، لا سيما وأن مدراء بعض التظاهرات لا تتوفر فيهم الشروط الموضوعية للحصول على أي دعم، بالنظر إلى ضعف مستواهم التعليمي والثقافي، وبعدهم الكلي عن المجال، فضلا عن استغلال بعضهم لمثل هذه الملتقيات في الدعاية الحزبية وغيرها، وتلك أمور لا بدّ أن تنتبه إليها اللجنة المانحة للدعم.
ونحن نتأمل قيمة جوائز المهرجانات المغربية، المحلية والدولية، ولا سيما تلك التي حققت صدى قاريا ودوليا، ومصداقية فنية وتاريخية رغم الفوارق الحاصلة بينها، كالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ومهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط ومهرجان السينما الأفريقية بخريبكة على سبيل المثال لا الحصر، والتي يقدم بعضها جوائز مالية مهمة باستثناء مراكش التي تتضارب الأنباء بشأن قيمة جوائزه، فإننا نلاحظ أن الفائزين بها لا يضعون شارات هذه المهرجانات على أفيشات أفلامهم، كما يحصل في بعض التظاهرات السينمائية الكبرى التي نعرفها من رموزها كمهرجانات فينيسيا وبرلين وتورنتو وكان وغيرها، بل إن مجرد المشاركة في مسابقتها الرسمية أو إحدى فقراتها يعتبر قيمة مضافة في حدّ ذاته.
كما أن بعض صناع السينما العرب والأجانب تغريهم مهرجانات إقليمية أخرى لأنها تقدم خدمات دعائية جيدة، وذات جوائز مادية مغرية، رغم أن بعضها يأخذ من الجذب المالي وسيلة للإقناع عوضا عن الرمزية السينمائية والقيمة الثقافية لمشروعه.
ترتبط قيمة الجوائز باللجان المانحة لها، وحياد أعضائها ونزاهتهم، وتعني النزاهة “البعد عن السوء وترك الشبهات”، درءا لكل ما من شأنه أن يرمي بها في متاهات التلاعب الناتج عن تدخل الإدارة أو المنظمين أو غلبة الانتماء الأيديولوجي أو العقدي لأعضائها وكذلك الجهات المدبرة لشأنها، والانتصار للقيم الجمالية التي تطور الفن، وتسمو بالذوق، وتخدم القضايا الإنسانية النبيلة، فأين مهرجاناتنا من هذه المواصفات؟
أزمة ثقة
الظاهر أن الكثير ينتظر مهرجاناتنا، والذاكرة القريبة تحفظ للمهرجان الوطني للفيلم -مثلا- النتائج غير المنتظرة للجانه ذات المرجعيات والمصالح المتناقضة، بل كانت حصيلته مضحكة وسوريالية في الدورات الأخيرة، وفي ذلك ضرب لأخلاقيات التحكيم، وتقليل من عصمة بعض الأفراد الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بأصوات تدلي باختياراتها تحت “يافطة” ديمقراطية الأغلبية المتحكم فيها.
صحيح أن المهرجانات الكبرى تمنح جوائزها لبعض السينمائيين بدافع سياسي، لكن الأهم عدم قدرة أي كان التشكيك في رفعة الحاصل عليها، وإذ نعقد هذه المقارنات، فإنما كي لا تتكرر مثل تلك السلوكيات التي تصيب وجاهة بعض مهرجاناتنا في مقتل، وتحط من أنفة بعض الأفراد الذين يعتقدون أن التاريخ مجرد حفلة اختتام سرعان ما ستزول بانتهاء العشاء الخاص بالشخصيات المهمة المحروسة.
تبذل الدولة المغربية جهودا مهمة في الرقي بالسينما على مستوى دعم الإنتاج ورقمنة وإحداث وترميم قاعات العرض، وكذلك دعم المهرجانات والتظاهرات السينمائية إلى الدرجة التي صار معها هذا الإمداد مكسبا للمهنيين، إلاّ أن البعض قد قاده إلى متاهات الانتفاع، وسار به صوب سراديب مظلمة قد تعصف مع مرور الوقت بالأهداف المسطّرة له.
ولذلك لا بدّ من محاسبة المسيئين للمكتسبات، ومعاقبة المفرغين لجوائز المهرجانات من قيمتها، ولا سيما الذين تلقوا الدعم من المال العمومي فأساؤوا إلى سمعة البلاد، وقوّضوا مجهودات المهرجانات العريقة التي ارتبط إشعاع السينمائيين المغاربة بصيتها الجميل، وصار زوارها من الخارج خير مُعرّف بجمال المغرب وغنى ثقافته، ففي السينما مآرب شتى قد لا يعرفها أعداء المهرجانات الذين يستغلون بعض السلبيات لتوجيه سهام النقد إليها بدعوى أخلاقوية، غالبا ما ترتبط في عمقها بحسابات أيديولوجية ضيقة.