الأحد 24 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

الحسين بوخرطة: في الحاجة إلى تحويل جهوية 2015 إلى آلية مركزية لسياسة إعداد التراب الوطني

الحسين بوخرطة: في الحاجة إلى تحويل جهوية 2015 إلى آلية مركزية لسياسة إعداد التراب الوطني

باستحضارنا الدائم للاعتبارات السياسية المرتبطة بالجهوية ببلادنا، كنا دائما نحاول الإجابة عن إشكالية علاقة العقل النظري بالعقل العملي في التدبير الترابي، متشبثين، من باب حبنا للوطن وتفاؤلنا المغمور بالأمل في غد أفضل، بضرورة أن تتوج المسارات السياسية التي ميزت الفترات السياسية المعروفة والمميزة للخصوصية المغربية، بتقوية التفاعل المستمر بين العقلين السالفي الذكر بمنطق يؤثر الأول في الثاني في اتجاه تحديث الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي هذا السياق، لا يمكن لأحد أن ينكر أو يتنكر للتطورات السياسية التي أفرزت في بداية الألفية الثالثة، تطورات أبانت عن الحاجة الملحة إلى هذا الصنف من التأثير، المتميز بطبيعته بالقدرة على توفير الشروط المطلوبة لتمكين مغرب العهد الجديد من الوصول، في المستقبل القريب، إلى محطة تندمج فيها، بتناغم كبير، وكليا، النخب الإدارية، بتعدد تخصصاتها العلمية والتقنية، بالنخب التمثيلية بمختلف توجهاتها الإيديولوجية والفكرية، وبالتالي بناء الأسس المؤسساتية والثقافية التي توطد مقومات ارتقاء جهوية 2015 إلى المستويات المنتظرة، لتجعل منها في آخر المطاف آلية ناجعة تحقق التميز والخصوصية المغربية في مجال سياسة إعداد التراب الوطني.

لكن، قبل البدء في التطرق إلى أهداف والمرامي من هذه الجهوية والأدوار الريادية التي يجب أن يلعبها المجتمع المدني، وفي هذا الوقت بالذات، وجدتني مضطرا للوقوف على الملاحظات الثلاث الآتية :

الملاحظة الأولى: منذ البدء في اعتماد آلية اللاتمركز الإداري الجهوي (مرحلة الجهات الثمانية)، إلى يومنا هذا، لم تجسد الجهوية بجلاء الهدف المرتبط بدوافع نشأتها. لقد تتبعنا كيف سيطر المنطق الإقليمي والمحلي على النخب المسيرة للجهات، وتتبعنا كيف تحول مهام بعض الجهات إلى مهام لا علاقة له بهدف التقدم في تحقيق التوزيع المتكافئ للسكان والأنشطة الاقتصادية بين مختلف جهات المملكة. لقد وقفنا من خلال دراسات التقييم المنجزة على عجز واضح في مجال التخطيط الجهوي، ووقفنا كذلك على قرارات مالية، خضعت أكثر للضغوطات المصلحية، واختزل عدد منها في العديد من الجهات في شراء التجهيزات المكتبية والآلات المعلوماتية ومواد البناء وتجهيز المسالك، وتنظيم التظاهرات والأيام الدراسية،........إلخ.

الملاحظة الثانية: لم تكن العلاقة ما بين الولاة والمجالس الجهوية تستحضر سياسة إعداد التراب الوطني في بلورة الميزانيات وتنفيذها. ولولا، توفر المغرب على مخطط وطني لإعداد التراب ،ركز العهد الجديد على إعطاء الانطلاقة لتفعيل محتوياته والتقدم في تحقيق أهم مرتكزاته، وعلى رأسها تمكين مختلف الجهات من حاضرة كبرى على غرار الدار البيضاء (عاصمة حضرية لكل جهة) تلعب دور الموجه للخدمات العمومية والتأهيل الترابي للجهات وتأطيره (الرباط، مراكش، طنجة-تطوان، فاس-مكناس، أكادير، وجدة، العيون، فاس،....)، وتطمح إلى تحقيق نوع من المساواة في الولوج إلى الخدمات العمومية والاستفادة من التجهيزات المهيكلة والبنيات الاقتصادية، لكانت حصيلة الجهوية ضعيفة جدا.

الملاحظة الثالثة: آلية الانتخاب المعتمدة في 4 شتنبر 2015 لتشكيل المجالس الجهوية لم تعط الأهمية المطلوبة لتقوية الوعي المجتمعي بالجهوية. لقد أحجب المسلسل الانتخابي أهمية الجهوية بحيث تابعنا كيف سيطرت قضايا الانتخابات الجماعية على النقاش المجتمعي في الترشيح وفي مرحلة الحملات الانتخابية، سيطرة همشت بشكل واضح أهمية الجهوية والانتخابات المرتبطة بها في سياسة إعداد التراب الوطني والتنمية الترابية. في اعتقادي، كان على الدولة، مهما كانت اعتباراتها، إيجاد الصيغة المناسبة التي ستبرز أهمية الجهوية في الأوساط المجتمعية، الصيغة التي يمكن بواسطتها الإسهام في تقوية النقاش المجتمعي وتوفير شروط المشاركة الشعبية (هناك عدد مهم من المواطنين والمواطنات غير مسجلين في اللوائح الانتخابية، وعدد من المسجلين لا يصوتون، وعدد آخر يضع ورقة التصويت البيضاء في صناديق الاقتراع). فنظرا لأهمية هذا الورش في البناء المؤسساتي بالنسبة لبلادنا، كان سيكون مفيدا لو تم تنظيم الانتخابات الجهوية في فترة منفصلة عن تاريخ إجراء الانتخابات الجماعية، وكانت الفائدة ستكون أكبر لو تم التوافق على قانون تنظيمي يقضي بانتخاب رئيس الجهة بشكل مباشر من طرف سكان الجهة، أو يكون من الحزب الذي حصل على المرتبة الأولى جهويا.

إن هدف الجهوية هو تمكين تراب الجهات من البنية التحتية والتجهيزات المهيكلة له بمنطق يجسد التكامل في الفعل لمختلف المؤسسات في إطار اللامركزية واللاتمركز، تكامل لا يسمح بتكرار المشاريع وتبذير المال العام، وفي نفس الوقت يخلق نوع من التنافس ما بين المؤسسات الجهوية في مجال التقدم في تحقيق المزيد من المكسبات في مجال حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن الجهوية كذلك هي الإطار المؤسساتي الأنسب لتقوية فعل مؤسسات المجتمع المدني. وعندما أستحضر هنا دور هذه المؤسسات، استحضر الحاجة إلى اندماج ترابي للعقلين النظري والعملي، اندماج يجسد الروح الوطنية ويساهم في ارتقاء تميز الخصوصية المغربية على المستويين الإقليمي والدولي، خصوصية أبانت بالواضح أن مطالب التقدم في مجال الديمقراطية بالوثيرة المطلوبة أصبحت خاضعة بشكل قوي لمستوى التقدم في المجال التنموي والثقافي. إنه معطى أبان أن رهان الوصول إلى مستوى المنافسة الانتخابية على أساس البرامج والمرجعيات السياسية لا زال محاصرا إلى حد بعيد بمستوى التقدم الاقتصادي الجهوي، وتحقيق العدالة الاجتماعية الترابية، وقطع أشواط ملموسة في مجال النهضة الثقافية. لقد أشار عبد الرحمان اليوسفي أن التوافق في شأن قبول دخول المعارضة إلى  تدبير الشأن العام سنة 1998 كان أساسه اتفاق على ضمان فترتين انتدابيتين لحكم المعارضة، يتم بموجب الأولى تأهيل البلاد وانتقال الحكم بسلاسة بين عهدين، ليتم تخصيص الثانية للمرور إلى الديمقراطية. لكن الاختلاف في طبيعة السلطات التقديرية في شأن المقومات السياسية لتقوية التفاعل ما بين السياسي والتنموي والثقافي المشروط بضمان الاستمرار في تحقيق التراكم في هاته المجالات وضمان الأمن والاستقرار للبلاد، ترتب عنه تعيين حكومة إدريس جطو، التكنوقراطي الذي ترأس حكومة سياسية من سنة 2002 إلى 2007.

وعليه، نرى في الأخير أن الاستمرار في نفس المنحى، وبوثيرة أكبر تستحضر ضرورة تدارك الوقت الضائع وتجنب الهفوات والانزلاقات المحتملة، يتطلب تقوية فعل المجتمع المدني بالشكل الذي يضمن التميز في جودة الخدمات والمبادرات التنموية المقدمة، وبالتالي يتم ضمان التفاعل الايجابي ما بين السياسي والتنموي والثقافي بالمنطق الذي يقوي الاحتكاك والتواصل ما بين النخب الكفئة والمواطنين، تفاعل يساهم بقوة في ربط الوحدة الترابية بالوحدة الثقافية الوطنية المتنوعة والغنية والتوازن في تحقيق التنمية الترابية في مختلف الجهات. إن الطلب المتزايد على التدين، والتطورات التي ميزت مجال المقاولة الدينية، لا يمكن في خصوصيتنا المغربية أن يفضي إلى انغلاق الأوساط الدينية وتقوية روادها أو احتمال فرضية السيطرة على الثروات من طرف الأقليات أو العودة المجتمعية إلى أشكال التدين القديمة. وهنا نرى أن المجتمع المدني هو القادر على توضيح الإشكاليات الثقافية جهويا، والمؤهل لدعم ومصاحبة المجهودات الرسمية في مجال الإصلاح الديني، وضمان الاستعمال الصحيح لحرية الرأي ومردودية النقاشات الثقافية الوطنية وبالتالي دعم المسار التحديثي الذي يقوده جلالة الملك محمد السادس. إن حضوره المؤسساتي (المجتمع المدني) هو الضامن لتحرير المبادرات وتحريك الطاقات وتوجيه الجهود لخدمة التنمية والتضامن في إطار احترام ثوابت التاريخ المغربي ومؤسساته. بالمجتمع المدني القوي والفاعل يمكن أن نجعل من الجهة الفضاء الأنسب لتسريع نشر قيم التمدين في النسيج المجتمعي وتحويل الديمقراطية إلى دعامة للدولة وسلطة المؤسسات، سلطة شعبية لن تسمح بنشر الخطابات الإيديولوجية المطعمة للتطرف والعنف والإرهاب. كما نرى أنه حان الوقت للتقليل من استحضار العديد من الاعتبارات. فإذا كان البعض منها ضروريا زمنيا في منظور الدولة ومقبول من طرف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين، فإن عدد منها يجب تجاوزه لكي لا يشكل ذلك عبء ثقيلا على المسار الإصلاحي، عبء قد يسبب في القضاء التام على العفوية في الفعل المجتمعي والحرية في المبادرة.