الاثنين 17 مارس 2025
سياسة

عبد القادر زاوي يعيد البوصلة الضائعة لطريق القدس إلى وجهتها الصحيحة

عبد القادر زاوي يعيد البوصلة الضائعة لطريق القدس إلى وجهتها الصحيحة

منذ أن ضاعت القدس وكل فلسطين في عدوان يونيو / حزيران 1967، وهي محط مزايدات مجانية في العالمين العربي والإسلامي. الكل يتعهد ويتوعد بتحريرها، ويعاهد النفس والشعوب على الصلاة في المسجد الأقصى، مؤكدا أنها البوصلة، التي تهدي سياساته والنبراس لاتصالاته باعتبارها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، معلقا على مشجبها مواقفه، ومبررا إجراءاته رغم أن معظمها لا يمت للقدس ولقضيتها بصلة.

استسهل الجميع تدثير مغامراته السياسية ومواقفه المرتجلة والعشوائية غير المحسوبة العواقب بالقدس لمقامها الرفيع من اهتمامات المسلمين ولارتباطها بعقيدتهم الدينية، ولمكانتها في تاريخهم السياسي والحضاري. فباسمها تم تبرير الانقلابات، والتنكيل بالمعارضين والمعارضات، وقمع الديمقراطية والحريات. فلا يجب أن يعلو أي صوت آخر مهما كان محقا على صوت معارك تخاض باسم القدس بعيدا جدا في بعض الأحيان عن جدران القدس وأجراس كنائسها ومآذن مساجدها ودروبها العتيقة.

على وقع اسم القدس وفلسطين انقسم العرب بين مسالمين ومصالحين، وبين من سموا أنفسهم صامدين، متصدين. ظل الأوائل منسجمين مع توجهاتهم، دعاة حلول ودية، زار أحدهم القدس عارضا سلاما تم وأده بعد أن اصطدم بأسوار القدس، فيما صدأت سيوف الصامدين فتحولوا مقاومين، فانكشف زيف مقاومتهم ليغدوا مجرد ممانعين. ولكن لا تعنت هؤلاء ولا تودد أولئك ترك أثرا في القدس، فلا زالت عرضة للاستيطان والتهويد، اللذين لا ينفع معهما تهديد ولا وعيد.

سنة 1980 بحثت الثورة الخمينية الشيعية الإثنا عشرية التوجه عن وسيلة تمكنها من تسهيل إقصاء شركائها في الثورة على الشاه من الديمقراطيين والشيوعيين ( حزب تودة ) عن السلطة للاستئثار بها وحدها، وتمنحها شرعية في العالم الإسلامي لما تدعيه من وقوف إلى جانب المستضعفين، وتطمس في ذات الوقت حقيقة مذهبيتها في هذا العالم، فوجدت لهذه الغاية ولذلك الهدف ضالتها في أعتاب القدس الشريف.

خصصت للمدينة المقدسة يوما عالميا أضفت عليه مزيدا من هالة القداسة حين جعلته يوم جمعة، وآخر جمعة في شهر رمضان المبارك. نفست بذلك احتقانات شعبية داخلها، وحشدت تجمعات أتباعها، محرجة في ذات الوقت الأنظمة التي ناهضتها. وبعلو صوتها وعبر أبواق تابعة لها أنست الجميع أنها رغم ما تدعيه من عداء للشيطان الأصغر مأخوذا بجريرة الشيطان الأكبر لم تجرؤ منذ نشأتها أن توجه رصاصة واحدة في اتجاه القدس، أو تضحي بفرد واحد على أسوارها.

سنة 1988 ضللت البوصلة الرئيس ياسر عرفات نفسه، وهو الشخصية الأكثر أحقية وشرعية في النضال من أجل القدس والمطالبة باستعادتها، وسولت له النفس الأمارة بالسوء أن يرى طريق القدس والتحرير يمر عبر مخيمات العار بتندوف، مستضيفا جلاد المخيمات في مؤتمر إعلان الدولة الفلسطينية بالجزائر. ولحسن الحظ سرعان ما استعاد ذكاءه الحاد، وبديهته المتوقدة ليدرك عدم فائدة الدخيل وخطورة معاداة الأصيل، ذلك الذي ائتمنه هو نفسه على القدس ومصيرها، وخبره وفيا للأمانة قدر المستطاع يرسخ بما أوتي هوية المدينة ويقيها الضياع.

سنة 1990 استحسن صدام حسين فكرة تغطية مغامراته المجنونة بالقدس، فشق لها طريقا رآه، من فرط فقدان البصر والبصيرة، يمر عبر الكويت وتشريد أهلها. دغدغ المشاعر التواقة للتحرير ببضع صواريخ أشبه بالألعاب النارية صوبها نحو القدس، فحدث أن دمر الكويت، واستباح أرض العراق وأهدر طاقاتها، وقضى على خيرة شبابها، وعلى نفسه وعلى نظامه، فيما ظلت القدس التي تغنى بها أسيرة حيث هي تواجه قدرها وحدها.

وفي التسعينات بعد هزيمة السوفيات كان خيال أسامة بن لادن ومعه أيمن الظواهري أكثر سعة من الساسة، خليطا من أوهام السياسة والدين. خالا نفسيهما جنكيز خان وهولاكو، أرادا تأسيس خلافة إسلامية في بلاد السند تنطلق منها جحافل "المحررين من أنصار ومهاجرين" تكتسح "شيعة الفرس"، وتستبيح عاصمة الرشيد معرجة على دمشق وعمان لتحرر القدس، فيدخلها "القائدان" دخول الفاتحين. انتهت مغامرة الأول جثة هامدة في قاع البحر، وانزوى الثاني في كهوف تورا بورا ينتظر مصيرا بائسا، وبقيت القدس وحدها تستغيث ولا من مغيث.

وها هو في سنة 2014 أبو بكر البغدادي يركب على صهوة نفس أوهام بن لادن، ولكن بالقرب أكثر من القدس في الهلال الخصيب، حيث يحلم بتأسيس خلافته وترسيخ وجودها لتكون قاعدة انطلاق يزحف منها مقاتلوه على فلسطين والقدس من الشمال والشرق ليدخلها إسوة بدخول صلاح الدين الأيوبي. وفي كماشة للصهاينة يخال نفسه يلتقي عند أسوارها بأتباع له قادمين من الجنوب من شبه جزيرة سيناء تحت مسمى أنصار بيت المقدس. اسم لم يكن اختياره اعتباطا، وإنما وسيلة لدغدغة مشاعر أهل الكنانة، وهم الذين لهم في كل بيت شهيد في حروبهم مع إسرائيل.

ويبدو أن البوصلة التي اهتدى بها الخليفة المزعوم ضللته، كما ضللت أتباعه من سيناء، فإذا به يرى القدس في خراب الموصل والأنبار والرقة، وفي سبي الأيزيديين والتنكيل بالآشوريين، وتدمير التراث الإنساني المتنوع في بلاد الرافدين والشام، ويراها أنصار بيت المقدس في ترويع الآمنين بالقاهرة، واستباحة دماء المصريين على رمال سيناء ومنتجعاتها.

وقبل حوالي الشهر من هذه السنة، وبصوت جهوري لا لبس فيه أعلن زعيم حزب الله اللبناني أن طريق القدس يمر عبر العديد من مدن سوريا، التي دخلها بذرائع واهية. وفي خضم انفعاله العاطفي نسي أو تناسى (لا فرق) أمرين أساسيين يفندان كل أطروحته، التي يجتهد دوما لتكون منطقية وغير غرائزية، وهما:

* أولا إن مقاتلي حزبه يرابضون في أقرب نقطة جغرافية للقدس جنوب لبنان، ولا يجرؤ على تحريكهم نحوها لأن تجربة حرب سنة 2006 والدمار الذي لحق بالجنوب وبالضاحية الجنوبية ما زالت آثاره ماثلة للعيان وبيئته الحاضنة لن تقبل مغامرة أخرى، سيما وأن اليوم لن تهب أي دولة خليجية لإعمار ما قد يدمر بعد استعداء الحزب لهذه الدول,

* ثانيا إن المدن السورية التي ذكرها طريقا للقدس كانت قبل الثورة السورية بيد حليفه نظام دمشق وكانت طرقها مقطوعة نحو هضبة الجولان السوري المحتل، فأحرى أن تفتح في اتجاه القدس. لقد كان النظام منسجما في ذلك مع نفسه لأن رأسه قال بعد حرب أكتوبر سنة 1973 إن سوريا لن تحارب إلا بعد أن تنتج من المدفع إلى الطائرة والصاروخ. وبالفعل حرص النظام السوري على هدوء الجبهة مع إسرائيل حرصه على هدوء معاقل طائفته في الساحل السوري، لدرجة أنه حتى بعد اندلاع الثورة ضده امتنع عن تعويم مأزقه بفتح الجبهة ضد إسرائيل رغم العديد من الضربات المؤلمة والمهينة التي وجهتها إليه.

وبالأمس القريب اعتقد الشيخ يوسف القرضاوي بصفته رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ولمجلس أمناء مؤسسة القدس أن بإمكانه ركوب صهوة القدس لتأجيج الفتنة في المغرب، فلم يتورع في دعوة المغاربة للضغط على حكومتهم لتقوم بواجبها تجاه القدس والأقصى، وذلك بتحريك من أسماهم "الفئات والشرائح المختلفة" وتعبئة الجماهير وحثها على تنظيم "مسيرات غضب" نصرة للأقصى وسيد المسرى.

وقد تناسى الشيخ الوقور أن مظاهرات الغضب في مختلف العواصم العربية والأجنبية لن تنفع القدس في أي شيء، والتجارب العديدة من قبل خير شاهد على ذلك. كما تجاهل أن من المفيد له شخصيا أن يسهم ولو بشكل رمزي في بيت مال القدس، المجهود الميداني العملي الإسلامي الوحيد الذي يدعم المرابطين في المدينة، وأن يوعز لأولياء لمريديه والمهتدين بفتاواه للمساهمة في ذلك المجهود نصرة للقدس وحفاظا على هويتها. ومن المؤكد أنه لن يفعل، فهو كالعديد يعتقد أن القدس مطية، لمن يتوسل شرعية، فليتاجر بها لنفسه لا لغيره.

طريق القدس طويلة، ولكنها ليست ملتوية، لا تمر من أي مكان، كما لا تختصرها الخطب الرنانة والعواطف الجياشة، وإنما التضحيات السخية بأضعف الإيمان إن لم يكن في المستطاع أكثر. عاث الصليبيون في المدينة المقدسة فسادا وخرابا، انتهوا وظلت هي صامدة موئلا لتساكن الأديان والمعتقدات وتعايشها.

طريق القدس لا تعمدها دماء الفتن الأخوية المتنقلة من الماء إلى الماء، وإنما دماء محمد الدرة، وعلي الدوابشة، ومعاناة وصمود مروان البرغوثي وأحمد سعدات. وهؤلاء لا ينتظرون منا كلمات، وإنما مددا وتبرعات. فهل نهديهم البوصلة الصحيحة؟.