أحد ليس ككل الآحاد.
صيفي، رمضاني.
ريح شاطئية تهب معتدلة تغمر شوارع البيضاء بنسمة ربيعية.
يعلن المذيع أن المحرار تجاوز كل المقاييس في العديد من المدن الداخلية وخاصة في الجنوب.
قادتني قدماي في رحلة البحث عن حل لمعضلة إلكترونية إلى سوق درب غلف.
وجت نفسي أسير وحيدا داخل أزقة السوق.
حركة بطيئة فهمت أنها نتيجة اقتران يوم الأحد بأحد أيام رمضان.
دون هدي أسير، أقتل الوقت في انتظار فتح المحلات أبوابها.
عربات، دكاكين، محلات أنيقة، بجوار أكواخ. رويدا رويدا تصل السيارات تباعا لتدب الحياة في مناطق متفرقة من السوق. تعلن الحياة عن نفسها بصدور صوت رخيم من آلة تسجيل في متجر ضيق. الشيخ المرحوم عبد الباسط عبد الصمد بصوته الذي يوقظ النفوس. دقائق بعد ذلك ينطلق من متجر مقابل دعاء ثم ترتيل من جانب آخر ثم أصوات لمقرئين وداعين من كل جهات العالم.
القاعدة هنا أن لا تنطلق الحياة إلا بسماع آيات من القرآن الكريم. إنه التبرك والاستفتاح كما يسميه الأتراك.
عُدت بذاكرتي يوم زرت جنوب غرب الجزائر في نهاية التسعينات من القرن الماضي. تسللت من الفندق ذات صباح باكر أبغي مشيا يجعلني أحس بنقاء جو الصحراء وفي غفلة من رجال الدرك المكلفين بحراستنا. اكتشفت أن أول ما يقوم به السكان عند فتح أبواب تجارتهم هي إطلاق صوت أغنية لم أحتج إلى كبير عناء لأكتشف أنها للمرحوم اسماعيل أحمد. يقول مطلعها : "أمحمد صاحب الشفاعة والنور الهادي". قطعت مسافة قصيرة وصلت فيها إلى نهاية البلدة التي يقطنها غالبية من أهالي قبائل القنادسة. التي كان يصفها صديق لي ينتمي لجنوب شرق المغرب "بالقبائل العابرة للحدود". لأجد نفسي أستمع لنفس الأغنية، ثم تتوالى حركات فتح المحلات لتصبح الأغنية وكأنها شعار لكل ساكني البلدة. فهمت أن الناس هناك يتبركون بهذه الأغنية انتظرت أمام محل تجاري نهاية الأغنية، لأكتشف أن مقطعها الأخير تدعو لملك فهمت أنه ملك المغرب. هم يرفعون الدعاء إلى الملك الموجه إليه كلام الأغنية أي ملك المغرب. كانت هذه طريقتهم في إرادتهم الدفينة والمعلنة للعودة إلى بلدهم المغرب. سيحكي لي أحد الكهول قال أنه من حفدة المولى ادريس الأزهر أنهم يعتبرون أنفسهم ضحايا التقسيم الحدودي الناجم عن اتفاقية للامغنية 1845 والتي اقتطع من جراءها الاستعمار الفرنسي أجزاء من التراب المغربي وألحقها بالتراب الجزائري باعتباره جزء لايتجزأ من أرض فرنسا.
تكثر الحركة في السوق وتزداد الجلبة والازدحام بعد أن فتحت أغلب المحلات أبوابها كل شيء هنا معروض للبيع. الأشياء القديمة بجانب الألبسة الحديثة. الهواتف، آلات التسجيل، أحذية، فواكه وجبنة مهربة معروضة تحت الشمس الحارقة. فاجأني صوت شاب أنيق، جميل المحيى يطلب مني أن أفصح عن سر تواجدي في السوق في هذا الصباح وكأنه فطن أني أبحث عن شيء وأنا أطوف بالأزقة. تظاهرت بعدم الاهتمام ليرفع الشاب صوته لأفهم منه أنه يبيع كل شيء ثم قال "عندي كل أنواع الأفلام الدينية والتاريخية" ثم سكت لحظة وقال وهو يقترب من أذني : "عندي الفيلم الذي في بالك". تظاهرت مرة أخرى بعدم الاكتراث ليفاجئني بشكل جاف قائلا : "أصاحبي راه عندي الفيلم ديال عيوش" أحسست إذ ذاك أني ربما لن أخرج سالما من هذه المقابلة. حضرني للتو جزء من قصيدة الشاعر الألماني كونتر غراس: "لا تمضي إلى الغابة
ففي الغابة غابة.
ومن يمضي إلى الغابة.
بحثا عن الأشجار
فلن يبحث عنه بعدها في الأشجار.
يؤذن لصلاة الظهر، تخلو المحلات من الباعة. قليلون من بقي في الأزقة من متسوقين. كل أخذ وجهة الصلاة. هنا مسجد كبير قائم بالشارع وأكواخ تستعمل للصلاة في العديد من الأزقة. يؤدي الكل صلاته بخشوع كبير، ليعلن الإمام انتهاء الصلاة بالسلام ليعود الكل إلى نشاطه. صياح. سباب. كلام نابي. أدعية. قرآن ينبعث من آلالات التسجيل المبثوثة في كل مناحي السوق.
قليلة هي المحلات التي تبث أخبارا في شهر رمضان الكل موجه نحو القنوات الدينية. محل يوجه لاقطه إلى قناة شرق أوسطية تبث صورا لعملية انتحارية ذهب ضحيتها العشرات من الأجانب الذين اقترفوا ذنب التواجد في عطلة في مدينة سوسة بتونس الشقيقة.
لم تكن الصور تثير انتباه المارين. غادرت السوق بعد أن أنهيت ما جئت من أجله. اخترت أن أعود ماشيا علني أذهب عني لغط المتسوقين. كان سلاحي في ذلك بالصدفة تسجيل للشاعر محمود درويش :
"لم اسمع أبدا عاشقين يقولان شكرا
ولكن شكرا لك لأنك انت من انت
حافظي على نفسك يا تونس
سنلتقي على ارض اختك فلسطين
هل نسينا شيئا وراءنا
نعم نسينا تلفت القلب
و تركنا فيك خير ما فينا
تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا".
مات درويش دون أن يعلم أنه ترك تونس جريحة. يقتل فيها الأبرياء. تمزق فيها الأشلاء. بدعوى القرب من الله.
دخلت البيت منهكا صور ضحايا العدوان على سوسة تلاحقني.
ماذا أقول لابني ذو الخمسة عشرة ربيعا وهو يسألني عن منطق الأشياء. لن أجد جوابا طبعا. لكني وبحثا عن ما أخبأ به قبح هذا الواقع الذي أصبح العالم العربي يعيشه. وجدت نفسي أتذكر رجلا كنا ننعته بآخر حكماء قبائل اولاد حدو. كان يردد كلما حلت المصائب مقولة ابن حزم بعد أن يبسمل ويحوقل : "... دع الحب يفعل بك ما شاء.... ويحيلك هباء يتنسمه كل عاشق في الكون. دع الحب يأتي، فمهما فعلت فسترى أن العشب ينبت على روث الدواب".
الرباط، في 29 يونيو 2015