"لاشك أنها ستكون خيبة كبيرة إذا اكتشفت الأمة -لا قدر الله- عجز علمائها وقلة حيلتهم، وبالمقابل قدرة السفهاء ووفرة نشاطهم وقوة عزمهم". هذا مما جاء في الكلمة الافتتاحية للأستاذ محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، في الدورة العشرين لهذا المجلس في مكناس 12/6/2015. فمن المقصود بالسفهاء بعد إضفاء المشروعية على الوهابية التقليدية في ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية؟
بدون شك ستعود بنا هذه المعادلة الجديدة، إلى اليوم الذي ضاق فيه صدر الأستاذ بنكيران، بطقوس المعبد الديمقراطي، فلم يتمالك نفسه، فنعت المعارضة البرلمانية بالسفهاء. وبهذا نجد أنفسنا أمام اتفاق عجيب من حقلين مختلفين، ومن رجلين يحتلان الموقع الثاني، في الحقلين الديني والسياسي.. مع فارق أن توصيف الأستاذ يسف كان بالمكتوب. ويبقى الجامع بينهما، أقل ما يجب في معرض النكير على المخالفين، في انتظار نصب ألواح المشانق لهم.
عبارة "سفهاء" الأستاذ بنكيران مفهومة المعنى، وهي تستهدف المعارضة البرلمانية. هي دالة في باب العطب الأصولي في تمثل الديمقراطية كقيمة أيضا، وليس فحسب كآلية للتداول السياسي أوصلت أصولية المخزن للحكم، لكن عبارة سفهاء الأستاذ يسف غير مفهومة، وستعمق الالتباس أكثر، باعتبار المضمون وباعتبار أخلاقيات إضافة المؤسسة الدينية إلى صاحب الأمر/ أمير المؤمنين.
ما المراد بالسفهاء، وقد جيرت ندوة المجلس العلمي الأعلى الوهابية التقليدية من المدخل الإخواني ليوسف القرضاوي وهشام الحمصي؟ ما هو أكيد في سياق التحليل، أن السفهاء ترجمة لعرض الشيخ زحل في شأن مواجهة القوى الديمقراطية، وامتداد لتكفير المجلس العلمي بالمضيق للحداثيين. وامتداد أيضا لمخلب الأستاذين محمد التمسماني، عميد كلية أصول الدين بتطوان، وتوفيق الغلبزوري رئيس المجلس العلمي بالمضيق، الطالب الوهابي طارق الحمودي، الذي حرض على من يعتبره سيسي المغرب وهدد سلامته البدنية وكفره بأسلوب سوقي.
وهذا يذكرني يوم أن وصف الأستاذ أحمد التوفيق، في يومية "الصباح"، انتقاد الصف الديمقراطي لبيان المجلس العلمي الأعلى حول الإصلاحات الدستورية، الذي مارس فيه ولاية الفقيه على أمير المؤمنين والقوى الحية في البلاد، ب "التحرش بالمؤسسة العلمية"، وهو التحرش الذي يدل في اعتباره، "على قلة ورع ديني من جهة، وعلى تخلف سياسي من جهة أخرى".
وخارج هذا المأخذ، تبقى كلمة الأستاذ يسف جيدة، خصوصا وقد استوعبت أن مؤسسة العلماء تعمل تحت مظلة أمير المؤمنين. لكن هناك أمرين ينبغي التدقيق فيهما، وقد غيبت هذه الكلمة فضيلة النقد الذاتي، في هذه الوقفة التأملية للمؤسسة العلمية :
التأطير الديني للأجانب، إذ يقول الأستاذ يسف: "فكثير من الذين روعهم الإرهاب باسم الدين، أرسلوا وفودهم إلى الجهة التي اطمأنت إليها نفوسهم، بأن يجدوا لديها المرجعية الدينية الصحيحة. ولم تكن هذه الجهة سوى المغرب بإمامته العظمى".
مبدئيا هذه الثقة تشرفنا كمغاربة، ويجب تعزيزها. لكن أمر الحفاظ عليها يستوجب التأكيد على أن مبعث هذا الاطمئنان، هو استقرار المغرب السياسي بمختلف مداخله، وشخص أمير المؤمنين. ما عدا ذلك، فكل حديث الآن عن النموذج المغربي في التدين، يدخل في باب التدليس. هذا النموذج يبقى طموحا، ويبقى تحقيقه رهينا بصيرورة إصلاح تأخذ في عين الاعتبار بناء مرجعية إمارة المؤمنين، التي يتعين الكثير من الوقت، لتخليصها من انقلاب الأصولية على مجمل وظائفها. ما أخشاه أن يتحول المغرب بفعل التدليس إلى مصدر رسمي للتطرف الديني. راجعوا قراءة الأستاذ لحسن السكنفل رئيس المجلس العلمي المحلي بالصخيرات، والمشرف على تكوين الأئمة والمرشدات، لنوايا الفاعل السياسي من التوظيف الجاهلي ل "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، وتنبيهه -لحساب الحركة الأصولية، وهو خريج السعودية الدعوة- من "توظيفه بطريقة براغماتية"، ومن قبل شهد بصحة حديث "اللهم كثر حسادنا"، والحال أن هذه الصحة لا تستقيم من المنظور الوهابي، بل هي منبثقة من صميم المدرسة الصوفية المغربية، فتنكب نفاق المؤلفة قلوبهم الطريق. راجعوا باعتبار إشراف الأستاذ السكنفل على تكوين الأئمة والمرشدات، عقله الفقهي الوهابي الباطن، في مقاربته لمفهوم الجهاد،للوقوف على مدى العجز في استيعاب تكييف أب الأمة سيدي محمد بن يوسف، لهذا المفهوم في معركة البناء الوطني، فأحرى استيعابه للفهم الكلامي والصوفي له، كما صاغه المغاربة. راجعوا أدبيات "ميثاق العلماء"، في تأطير الأئمة، لتلمس مقدار الهدم الممنهج لثوابت البلاد. راجعوا انزلاق خطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد، في المس بالأفراد والجماعات والثوابت، والدول الشقيقة، خدمة لإديولوجية الحزب الحاكم. راجعوا بنية التعليم العتيق للوقوف على حجم التواطؤات الكبرى ضد الوطن. فهل هذا هو النموذج الذي يراد تسويقه في الخارج؟ رجاء لا تفضحونا، "لو كان الخوخ إداوي، كون داوى غير راسو". رجاء ارحمونا من استمرار تدليس تقي الدين الهلالي. وارحموا معنا صاحب الأمر من تبعات ذلك. رجاء نزهونا من أن نكون مجرد ساردين في النهاية لسحر قلب الحقائق والأعيان. رجاء !
ندوة السلفية، حيث قال بصددها: "فبعد نحو سنتين من التحضير تم في مطلع شهر أبريل المنصرم تنظيم ندوة المجلس العلمي الأعلى الكبرى تحت عنوان: السلفية تحقيق المفهوم وبيان المضمون(..) رفعت كثيرا من اللبس العالق في الأذهان حول حقيقة السلفية الصافية، وما هي عليه واقعا وممارسة(..) وحظي هذا النشاط باهتمام إعلامي كثيف(..) والعمل جار لتجميع العروض وإعدادها للنشر في القريب إن شاء الله".
إذا كان تاريخ التفكير في الندوة ينفي عنها اندراجها في رهان العهد الجديد في السعودية، بتوثيق التحالف بين الوهابية والإخوان، فإنها باستحضار مدة هذا التفكير، تأتي عقب ندوة الرياض "السلفية منهج شرعي ومطلب وطني" في 27 دجنبر 2011. وباستحضار هذه المدة وانتساب المتدخلين للمؤسسة العلمية، يصعب في باب الالتزام، والانضباط أيضا، أن يكون العمل جار لجمع العروض لحد الآن. أما رفعها للبس العالق في الأذهان، فإنها على العكس أضفت المشروعية الرسمية على الوهابية التقليدية، بكلمة الأستاذ التوفيق وعرض الشيخ زحل، وتوظيف المدخل الإخواني في تمرير هذه المشروعية كعرض الأستاذ توفيق الغلبزوري. أعتقد أن إعداد هذه الندوة للنشر يتطلب مراجعة جذرية لمعظم عروضها، تأخذ في الاعتبار جملة الملاحظات حولها، لتوفير وثيقة من منظور الغد، مطابقة لتحملات الدولة في المغرب. فلغو هذه الندوة كثير وكثير. لكن الأخطر ما في الأمر كله، قتلها لروح النبض الحقيقي للمغاربة، حيث جسدت روح الانهزامية باسم الواقعية، في سياق مخطط إبقاء الدولة على قدر من الضعف، لابتزازها الموصول. ليتها جسدت الواقعية الثورية في استنهاض الهمم لحماية بيضة الدين والوطن في هذا البلد الأمين.
كل ما سبق يحيلنا على أزمة نخبة الدولة، وعلى فشل مقاربة اعتماد المؤلفة قلوبهم في الحقل الديني. وبالمناسبة أترحم على المؤرخ السلفي المغربي عبد الرحمن بن زيدان (ت:1946)، نقيب الأشراف العلويين، الذي كان يسكنه هاجس التعريف بالمغرب في الحجاز ومصر والشام، ونحن عاجزون عن التعريف بالمغرب داخل المغرب. للذكرى نعيد لوعة هذا السلفي المتنور: "مسكين المغرب، تنوسي ذكره، وانهار أثره وعفا عليه الزمن(..) المغرب مسكين حقا، وليس من العدل أن نلوم غيرنا، فيما فرطنا فيه نحن تفريطا، إذ مر إلى هذا المستوى المنحط الذي نحن نعيش فيه عن تراض، وقنعنا بالخمول بعد الازدهار، وبالدموع الحرار،ب عدما كنا نملأ الأرض بالصيال والفخار. فالملومون نحن، والمؤاخذون ليس سوانا".
وحديث السفهاء لدى الأستاذين بنكيران ويسف، جزء لا يتجزأ من أزمة هذه النخبة. لكن حديث الأستاذ يسف يتميز بنكهة خاصة، فكما قرأ الأستاذ التوفيق في ندوة السلفية آيتين، لمباركة احتلال الأصولية للفضاءات الدينية، فقد أعقب الأستاذ يسف حديثه عن السفهاء بآيتين: "إن هذا لهو البلاء المبين"، "إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي بها من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين". وزاد هذا الدعاء: "فاللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وقنا شر ما قضيت. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وبدوري، وأنا يلهمني صفاء الأستاذ يسف، وقد جعل نفسه بهذا الدعاء من الفرقة الناجية، أدعوه إلى أن يستوعب دوره بشكل أفضل، كما استوعبه أخيرا الأستاذ التوفيق من خلال درسه الرمضاني حول أبي العباس السبتي، فكان متألقا، "إن هذا لهو القصص الحق."!