Sunday 6 July 2025
كتاب الرأي

كريم مولاي: في ذكرى الاستقلال.. الجزائر بين ذاكرة التحرير وقبضة العسكر

كريم مولاي: في ذكرى الاستقلال.. الجزائر بين ذاكرة التحرير وقبضة العسكر كريم مولاي
تحلّ علينا ذكرى الخامس من تموز، تاريخ استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي عام 1962، في وقت تمر فيه البلاد بمفارقة مؤلمة: دولةٌ ولدت من رحم مقاومة شرسة ضد الاستعمار، لكنها لا تزال، بعد أكثر من ستة عقود، أسيرة قبضة عسكرية محكمة، تتجدد بوجوه مدنية مختلفة، ويغيب عنها التداول السلمي الحقيقي على السلطة، وتستمر فيها الأحلام المؤجلة لشعب قدم من أجل الحرية ما لم يقدمه شعب آخر في العصر الحديث.

استقلال مغشوش؟
ما نحتفل به في كل ذكرى، هو "نهاية استعمار"، لكن السؤال الذي يجب أن يطرحه الضمير الوطني هو: هل تحقق "الاستقلال السياسي" فعلاً؟ أم أننا انتقلنا فقط من سيطرة استعمارية أجنبية إلى نظام سلطوي محلي يمسك بخيوط الدولة، ويعيد إنتاج نفسه عبر مؤسسات شكلية وانتخابات محسومة سلفًا؟

الحقيقة أن إرث حرب التحرير الذي رفع الشعب الجزائري إلى مصاف الأمم الحرة، تم مصادرته مبكرًا من طرف المؤسسة العسكرية التي سرعان ما هندست نظامًا سياسيًا يُقصي، يُراقب، ويُعيد إنتاج نفسه دون مساءلة. منذ انقلاب بومدين على أحمد بن بلة عام 1965، ترسخ "الاستقلال السلطوي"، لا استقلال الإرادة الشعبية.

الجزائر في عزلة.. لا مبرر لها
في الذكرى 62 للاستقلال، تبدو الجزائر في عزلة غير مبررة عن محيطها الإفريقي والعربي والدولي. دبلوماسيًا، تتسم سياساتها بالانكماش، وغالبًا بالردود الانفعالية بدل المبادرات. وقد تعمّقت هذه العزلة نتيجة القطيعة مع الحراك الشعبي الذي انطلق في 2019، حين خرج ملايين الجزائريين في أبهى لحظة سلمية تطالب بتغيير حقيقي، لا "تجديد للواجهة".

لكنّ الحراك واجه جدارًا من الإنكار، تلاه قمع ممنهج، واعتقالات للنشطاء، وإغلاق للمجال الإعلامي والمدني. وهكذا، بدل أن تكون الجزائر نموذجًا للانتقال الديمقراطي، تحولت إلى ساحة توجس داخلي وشك خارجي.

الجيش والدولة.. من يحكم من؟
في عمق المشهد السياسي، تظل المؤسسة العسكرية الفاعل الأول، والأخير. فمنذ الاستقلال، لم يعرف الجزائريون رئيسًا منتخبًا بحرية مطلقة دون مباركة العسكر. هذا الواقع يعطل إمكانيات النهوض، ويكبح تطور النخبة السياسية ويضعف الثقة بالمؤسسات.

كلما اقتربت الجزائر من لحظة مفصلية، تدخلت المؤسسة العسكرية في هندسة النتائج سلفًا. هذا التحكم يخلق فجوة واسعة بين السلطة والشعب، ويضعف فرص بناء مؤسسات مدنية قوية تُفرز قيادات سياسية عبر الإرادة الشعبية.

لن يكتمل معنى الاستقلال إلا عندما يتحقق الاستقلال الحقيقي للإرادة الشعبية. الجزائر تمتلك ثروات هائلة، وموارد بشرية واعدة، وتاريخ نضالي ملهم. لكنها لا تزال رهينة عقدة الخوف من الحرية، والخوف من الشعب، والخوف من التجريب السياسي.

لقد أظهر الحراك الشعبي أن الجزائريين واعون بحجم التحديات، ويملكون طاقات التغيير السلمي. والمطلوب اليوم ليس خطابًا عاطفيًا في ذكرى الاستقلال، بل شجاعة سياسية لإعادة الاعتبار لفكرة الجمهورية كفضاء مدني، تعددي، تشاركي، تكون فيه السيادة للشعب، لا لمؤسسات تضع نفسها فوق الدستور.

في 5 تموز من كل عام، لا نريد فقط تذكّر الماضي، بل محاسبته. لأن الشعوب التي تكتفي بالتمجيد الرمزي للتاريخ، ولا تراجع مساراتها السياسية، سرعان ما تجد نفسها تعيد إنتاج التبعية بأشكال جديدة.

آن للجزائر أن تتحرر مرة أخرى ـ هذه المرة من القيود التي صنعها نظامها بنفسه. وآن للذكرى أن تكون موعدًا مع الحقيقة، لا مع التجميل.

كل عام والجزائر إلى الحرية أقرب.
 
كريم مولاي، خبير أمني جزائري - لندن