الخميس 19 سبتمبر 2024
مجتمع

ضحايا أقدم مشكل بعد نزاع الصحراء وأزمة كاشمير.. يلتمسون تدخل الملك لطي ملف حقهم في السكن الذي استنزف ربع قرن من الانتظار

ضحايا أقدم مشكل بعد نزاع الصحراء وأزمة كاشمير.. يلتمسون تدخل الملك لطي ملف حقهم في السكن الذي استنزف ربع قرن من الانتظار

حين عقد الحاج العيدي العزم على التلويح بيديه مودعا أيام طيش الشباب، ونفقاته غير المحسوبة في أمور لحظية، لاقتحام  مرحلة الجد و"تزيار السمطة"، كان عمره على مشارف سن الأربعين. وهو السن الذي رأى خلاله بأن أفضل ما يمكن أن يستهل به دخوله هو ضمان امتلاك سكن كأولوية تستحق استنزاف دراهم أجرة آخر الشهر، حتى إذا ما تقدمت به السنون وفعلت بقواه علل الشيخوخة ما تفعل وجد لنفسه وأبناءه معه "قبرا للحياة" يقيهم برد الشتاء وحرارة الصيف. الحاج العيدي، يبلغ الآن 63 سنة، وحلمه لم يتحقق بعد. ليس لتهاون ما من جانبه أو نتيجة قدر إلاهي، لأن الله حاشى أن يقدر سوءا لعبد مؤمن، كما يقول الرجل، ولكن جراء ظلم بشري استقوى بنفوذه على من لا معين له بعد خالقه. متعجرفا، يسجل مجالسنا، بسند جهات قد تكون "تماسيح أو ديناصورات، لازالت تعشش في عهد ملك تجمع آراء من داخل المغرب وخارجه على أنه "ملك الفقراء وناصر المستضعفين".

وتعود أصل الحكاية الفضيحة، طبقا لنعت الحاج العيدي إلى سنة 1991، لما وضع الأخير كامل ثقته في جمعية تسمى "الأمانة"، حاملا أملا بسيطا كغيره من ملايين المغاربة، في هجر بيت مكترى إلى آخر في ملكيته. فاستجاب لكافة الشروط المطروحة أمامه في سبيل "إنجاز العمر"، كما يسميه، ولو أنه من بديهيات الحقوق المشروعة لمواطن في أي دولة أعلنت غير ما مرة بأن مسار الديمقراطية بها يعد خيارا لا رجعة فيه. ولذلك، اقتص من رزق أولاده مبلغ 10 ملايين سنتيم، اكتشف فيما بعد بأنه كمثل من ألقاها في بحر دون طائل، نتيجة خطابات التسويف و"سير حتى تجي" التي مل من سماع مفرداتها المصكوكة وبصيغ مختلفة، مع أنها تصب جميعها في مصب الاقتناع بأن هناك نية مبيتة لاختلاق سيناريو مفتعل، يمهد الطريق نحو تسليط سيوف الطغيان على رقاب السليمة قلوبهم من بسطاء المواطنين.

وكنتيجة حتمية لهذا البوادر غير المطمئنة، يشدد العيدي، بدأت رحلة المعاناة دون جديد يذكر، اللهم تدهور الوضع النفسي وملامسته سقف التذمر، على الرغم من سيل الاحتجاجات وكم الرسائل التنديدية التي وجهها للعديد من الأشخاص والمؤسسات المعنية. ولم يقف جهاده هذا الذي لا تحتمله حالته الصحية المرهقة بأمراض أغلبها كان وليد هذا المشكل، بحيث طرق باب القضاء باعتباره الملجأ المنصف والذي لا يعرف في قاموسه شيئا اسمه المحاباة أو "باك صاحبي". لكن، يتأسف العيدي، كانت الصدمة ممن يرجى عدله، وطلع منه ما لم يخطر على بال، بتخلفه عن واجب إعادة الأمور إلى نصابها تحت ذرائع واهية ولا مسوغ قانوني أو شرعي لها.

الحاج العيدي ليس إلا واحدا من بين ما يفوق 3000 متضرر ومتضررة، كانت الساحة المحاذية لمقر الجمعية بمنطقة البرنوصي في مدينة الدار البيضاء، صباح اليوم، شاهدة على تجمهرهم احتجاجا في صورة تثير الأسى والحسرة أكثر من أي شيء آخر، لما ضمته من رجال ونساء اشتعلت رؤوسهم شيبا، وخطت تجاعيد القهر و الانتكاسة وجوههم المغبونة. بعضهم يكابد آلاما دفينة خفية لإظهار الإصرار على أنه مازال في الجهد نصيب لمواصلة السعي خلف كسب معركة "ما ضاع حق وراءه طالب"، والبعض الآخر استسلم لعكاز يسنده من خيانة "الصحة"، في حين لم يتردد الكثير من الوافدين عن إبراز أسنانه البديلة كدليل على طول مدة الاستنكار، دون الحديث عن أولئك الذين لا ترى بأفواههم سوى موضع أضراس لعدم قدرتهم على مجرد دفع تكاليف "فم اصطناعي". مع أنهم هم الذين كانوا في أول يوم خاضوا فيه تجربتهم "القاسية" شبابا مفعم بروح الحيوية وإكسير الأمل، مانحين كل الأمان لوعود حددت بضعة سنين لبلوغ حلمهم، فإذا بها تتحول إلى ربع قرن من الانتظار والترقب. وأكثر ما أضاف للتجمع طابعا دراميا، عدم حضور الكثير من الضحايا بعد أن غيبهم الموت وسكنوا المقابر دون أن ينعموا برؤية ما عاشوا لأجله، بل حتى أن الأفضل حظ ممن أطال الله في عمرهم وتغيبوا، كان السبب إصابتهم بعاهات ألزمتهم الفراش في انتظار حكم إلاهي يجعل فيه أمرا مقضيا.

السعدية البيازي، امرأة لم يكن من الممكن حضور "أنفاس بريس" لموقع التجمع دون التقرب منها لمعرفة ما تضمره من أذى نفسي ومادي على خلفية هذا المشكل، خاصة وأنها بدت في كثير من اللحظات وهي تحدث نفسها تارة، وتغير من وضع وقفتها تارة أخرى من تأثير صداع عملية جراحية أجرتها مؤخرا. والأبلغ أنها، تبعا لما قالت، ليست سوى زوجة فقيد توفي وغصة الغدر في حلقه، تاركا إياها وأبنائهما الثمانية في مطب تبعات "ديور الكرا". مضيفة "الصراحة أوليدي هاد الناس عذبونا ومحنونا، ما حيلتنا لمشاكلنا ولا لمشاكل الكراء، ولا لمشاكل هاد طلع ونزل على حقوقنا وحقوق اولادنا". كما طلبت "دابا كنطلبو من ملكنا يشوف من حالنا، ويكون شي تاويل ديال الخير لينا فهادشي اللي باقي لينا فالعمر. الموت علينا حق، وخوفي خوفي يبقاو هاد الوليدات من ورايا بلا دار ولا دوار". قالت السعدية العبارة الأخيرة وعيناها تبرقان بدموع الرجاء الضائع، قبل أن تغادر بخطوات متثاقلة وهي تدعو "الله يهدهم الله يهديهم. هادا صبنا نقولو دابا..".

أما حميد أعريبي، وهو ضرير، فقد كانت رؤيته وهو يلتحق بالتجمهر في حالة تجرح الخاطر، وتلين لها أكثر القلوب قساوة، كافية لمساعدته على التنفيس بما في داخله من ضيق. فكان منه "أنا ضحية بشكل ربما أعمق. ففضلا على كوني محروم من نعمة البصر، أعيش مع هاد الناس حرمانا أشد لأنه صدر ممن نحسبهم إخوانا ومغاربة مثلنا، أما حتى افتقادي للنظر بأمر إلاهي فإنني أدري بأن جزاءه مضمون وبغير حساب يوم لا تنفع المرء لا سلطته ولا أمواله ولا أبناءه، فقط ما قدم من أعمال كانت خيرا أو شرا". ويردف أعريبي الذي تحمل عناء الانتقال من المدينة القديمة إلى البرنوصي مستقلا حافلتين، وإصابته بجرح بسيط جراء سقوطه متعثرا بحفرة صادفت طريقه، كون أكبر هاجس يسكنه اللحظة هو الكيفية التي سيخبر بها أبنائه بخصوص تورطه في شراك تلاعب مفضوح أبطاله فاسدون بمباركة بعض رجال القضاء. إذ يخشى وقع الصدمة عليهم بخسارة 10 ملايين ونصف المليون سنتيم، وكذا ردة الفعل التي من المحتمل أن تصدر منهم، خاصة وأنهم يسكنون حاليا في "دار النساب، ولا ينقطعون عن ترديد سؤال: إمتى أبابا غادي نمشيو للدار الجديدة".

ولو أن نظارته السوداء كانت تخفي ما يعتمل في عينيه هو يتجرع إفادته تلك، غير أن الرعشة التي لازمت حركات فمه ويديه نقلت ما عجزت عن ترجمته الكلمات، وكشفت ندوب تداعيات ما يتخبط فيه وهو مكبل بين مطرقة تأثره النفسي وسندان تبخر حلم أسرة بأكملها، ولسان حاله يقول "حسبت أن انخراطي سينسيني همي، فإذا به يزيدني هما على همي..".

هي إذن حالات إنسانية تهز المشاعر، وتفرض نفسها لتكون في مقدمة أولويات الصالحين من مسؤولي البلد، لتتبوأ الصدارة في أجندتهم، إنصافا ليس أكثر لهذه العينة من خدام الوطن، بحجة أنهم استحسنوا ألف مرة التوجه للمؤسسات الدستورية بدل الانصياع لاقتراحات تنظيم الوقفات والمسيرات والاعتصامات، وأيضا المسيرات على الأقدام لمدينة الرباط. كل هذا لغاية الحرص على إبقاء الصورة السلمية والأمنية للمغرب في عيون الأجانب. لكن ومقابل الآذان الصماء التي بودلت بها نداءاتهم، فإنها لا تنذر إلا بالانتهاء إلى إعطاء برهان على أن "لابد للمكبوت من فيضان"، مع إبقاء الأمل وإلى ما لانهاية، والقول لعجائز أنهكتهم "الحكرة"، في الخلاص الملكي للوقوف في وجه كل متعال متغطرس يحاول أن يحسب على المغاربة بأفعال لا مغربية متجاهلا قول الملك "إما أن تكون مغربيا أو لا تكون"، علما أن الجميع على يقين تام بأن بلوغ "الفضيحة" إلى علم أعلى سلطة في البلاد ستثير حفيظته، ولن يسمح بدقيقة آتية والمشكل لا يزال يقض مضجع مظلومي شعبه، خاصة وأنهم اكتووا بحرقة الخيانة وهم عزابا، ويظلون بين فكي مأزقها وهم أجدادا.