الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: اليمن السعيد بين هلال شيعي عتيد وبدر سني يتراءى من بعيد

عبد القادر زاوي: اليمن السعيد بين هلال شيعي عتيد وبدر سني يتراءى من بعيد

لم تمثل مبادرة المملكة العربية السعودية لتشكيل تحالف عربي لتنفيذ ما سمي "عاصفة الحزم" بغية إعادة السلطة الشرعية إلى الحكم في اليمن، وتحجيم نفوذ الحوثيين من جماعة أنصار الله مفاجأة للمتتبعين للشأن اليمني. فقد جاءت هذه الخطوة بعد أن استنفذت دول مجلس التعاون الخليجي كل الإمكانيات المتاحة لتحقيق مصالحة وطنية، واقتنعت بأن جماعة أنصار الله غير مكترثة بإيجاد مخرج للأزمة السياسية في البلاد عبر توافق وطني حقيقي يستوعب كل القوى الحية في البلاد، وإنما تريد فرض أجندتها الخاصة، وأجندة من يقف وراءها دون أي اعتبار لمصالح الأطراف الداخلية والإقليمية على حد سواء.

والواضح أن الدول الخليجية تريد بهذا الحزم وضع حد لهواجس انتابتها منذ أن تأسست الحركة الحوثية سنة 1992 على أساس ديني يهدف تجميع أتباع المذهب الشيعي الزيدي في حركة مسلحة خلافا للعرف السائد في اليمن المتمثل في التئام باقي القوى السياسية اليمنية على أسس قبلية ومناطقية. هذه الهواجس ستكبر، وستصبح مدعاة للقلق انطلاقا من سنة 2004 حين بادرت الحركة الحوثية إلى تحدي السلطة المركزية في صنعاء زمن الرئيس علي عبد الله صالح، الذي شن عليها العديد من الحملات العسكرية لإضعافها في معاقلها في محافظة صعدة شمال البلاد دون جدوى.

وفي سنة 2009 ستتأكد المملكة العربية السعودية من خطورة الحركة الحوثية، وذلك عندما لم تتورع هذه الأخيرة في الدخول في مواجهة مع حرس الحدود السعودي بمهاجمة عدد من المناطق الحدودية المشتركة بين البلدين متذرعة بأن ترسيم الحدود السعودية اليمنية الذي تم تنفيذا لاتفاقية مبرمة بينهما سنة 1934 فيه غبن بين لليمن، ولا بد من رفعه بإعادة النظر في الحدود التي بادرت السعودية إلى تسييجها.

ومع اندلاع ثورة الشباب اليمني في سياق ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، ستتضاعف قوة الحركة الحوثية التي استغلت فرصة غياب الدولة المركزية وتنامي تسليحها لتوسيع مجالها الترابي وإقامة علاقات تعاون أو تحالف مع العديد من القوى السياسية المناهضة آنذاك لنظام الرئيس علي عبد الله صالح لتغدو القوة الأولى والمتصدرة للحراك الشعبي.

غير أن الحركة الحوثية التي اتخذت اسم جماعة أنصار الله تيمنا باسم حزب الله اللبناني ستستنفر جميع المراقبين والمتتبعين للتساؤل والبحث عما تضمره من نوايا، وما قد يكون خلفها من قوى دولية وإقليمية عندما سترفض الاعتراف بالمبادرة الخليجية التي وفرت غطاءا سياسيا داخليا وخارجيا للمرحلة الانتقالية التي دخلتها اليمن بعد الربيع العربي بإرغام الرئيس السابق على التنازل عن السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي.

وقد ادعت الحركة آنذاك أن رفض المبادرة الخليجية يعود إلى ما منحته من حصانة قانونية للنظام السابق وبرأته من كافة التهم المنسوبة إليه، بينما اتضح فيما بعد أن الرفض كان بإيعاز من إيران التي خشيت أن يكون نجاح التجربة في اليمن بغطاء أممي عاملا مشجعا على استنساخها في سوريا، التي لا تزال طهران تريدها أن تعود كما كانت أو لن تكون لأحد ولو على حساب المزيد من أشلاء ودماء أبناء الشعب السوري ودموع أرامله وأطفاله.

ورغم هذا الرفض انحنت الحركة الحوثية للعاصفة وانخرطت في مؤتمر الحوار الوطني الذي هو أحد نتائج تطبيق المبادرة الخليجية على أساس تلغيمه من الداخل لإفشاله. وعندما لم تتوفق كلية في ذلك ضربت عرض الحائط بمخرجات هذا الحوار، التي حرصت على عدم تضمينها أي التزامات حقيقية بشأن بسط نفوذ الدولة وسيطرتها الكاملة على كل التراب اليمني من صعدة إلى المهرة.

وقد مكنتها بعض الثغرات الموجودة في وثيقة الضمانات المتفق عليها في أبريل 2014 من تأليب فصائل واسعة من الرأي العام على قيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي معتبرة إياه قد فشل في إعادة هيكلة القوات المسلحة وقوات الأمن، وفي تحقيق الشراكة الوطنية ومراعاة الكفاءة والنزاهة في التعيينات الإدارية والعسكرية.

إن هذا التأليب الذي وجد صداه في الكثير من مناطق اليمن بعد أن تزامن مع ارتفاع في أسعار المواد الأولية والمعيشية سيعطي ذريعة للحوثيين للزحف على التراب اليمني مبتدئين بمحافظة عمران التي أخضعوها لسلطتهم في يوليوز 2014 دون أي مقاومة تذكر. وبسقوط عمران تسنى للحركة الحوثية أن تشرع في ضرب حصار بري على العاصمة انطلاقا من منطقة شملان التي أصبحت منصة للاجتياح الموالي لصنعاء والسيطرة على كافة المباني الحكومية والثكنات الأمنية والعسكرية فيها منذ شتنبر 2014.

وبمضي الوقت اتضح أن الحوثيين لا يريدون إصلاح المسيرة السياسية وتصحيح أخطاء الحوار الوطني كما ادعوا، وإنما يسعون إلى تغيير المعادلات اليمنية الداخلية، وقواعد اللعبة على الصعيد الإقليمي أيضا كما ينم عن ذلك فرض الإقامة الجبرية على الرئيس هادي وأعضاء حكومته، وانتزاع الاستقالة الجماعية منهم، والإسراع في تشكيل بدائل جديدة وفق إعلان دستوري وضعوه ليعبر عن غلبتهم من خلال تشكيل مجلس رئاسي ومجلس وطني انتقالي.

وقد رأوا أنهم يتوفرون في ذلك على دعم معنوي يتمثل في فشل المجتمع الدولي عبر مجلس الأمن في اتخاذ قرار يتيح التدخل في اليمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وفي استمرار جهود مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في إيجاد صيغة توافقية جديدة رغم خروجهم عن أسس ومبادئ المبادرة الخليجية المدعومة هي الأخرى من الأمم المتحدة.

إن فرار الرئيس عبد ربه منصور هادي من الإقامة الجبرية التي كانت مفروضة عليه ولجوئه إلى عدن ليعلن من هنالك سحب استقالته ومواصلة مهامه كرئيس شرعي منتخب للبلاد، واعتماد عدن عاصمة مؤقتة سيرغم الحوثيين على الكشف عن نواياهم الحقيقية بالاستيلاء على السلطة والانفراد بالحكم، وذلك بإعلانهم الزحف على المناطق الجنوبية ومحاصرة عدن ومهاجمتها.

وفي غمرة الانتشاء بتلك الانتصارات التي حققوها ميدانيا تناسوا أن يقرأوا جيدا علامتين فارقتين في الأزمة اليمنية هما :

- إقفال السفارة الأمريكية في صنعاء نهائيا وترحيل كافة موظفيها في منتصف فبراير 2015 على أساس تدهور الوضع الأمني، في حين أن الإدارة الأمريكية لم تعمد إلى إجراء كهذا في ظل أوضاع أمنية أكثر سوءا سنة 2011 عندما كانت المعارك محتدمة في محيطها أحيانا بين الوحدات العسكرية التابعة للرئيس السابق علي عبد الله صالح، وتلك التي كانت موالية حينها للجنرال المنشق علي محسن الأحمر. وقد اعتبر بعض المراقبين هذا الإغلاق نتيجة عدم وجود مؤسسة شرعية يمكن التعاطي معها دبلوماسيا، ووسيلة ضغط على الحوثيين لوقف غلوهم. ولكن ثبت أن بواعث الإغلاق كانت أبعد من ذلك بكثير.

- البيان الصادر يوم 14 فبراير 2015 عن اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي المنعقد لأول مرة في قاعدة عسكرية جوية في ضواحي الرياض، والذي حذر بلغة لا تحتمل اللبس من أن عدم التوصل إلى اتفاق في اليمن سيدفع الدول الخليجية إلى اتخاذ إجراءات تمكنها من الحفاظ على مصالحها الحيوية في أمن اليمن واستقراره.

وفي ضوء ما يشاع عن طول بال الخليجيين ورباطة جأشهم تهكم البعض من القرار الخليجي، معتقدا أن السند الأمني الذي مثلته الولايات المتحدة الأمريكية لدول الخليج منذ عاصفة الصحراء لم يعد يخيف أحدا بعد أن باتت السياسة الأمريكية تتبنى الخيارات الدبلوماسية وسحب القوات بدل نشرها، ناهيك عن شيوع الحديث عن خلافات داخل البيت الخليجي نفسه على الساحة اليمنية. خلافات كانت واضحة إبان الثورة في اليمن بين الرغبة السعودية في احتواء الحراك الشعبي بالإبقاء على هيكل النظام وتغيير وجوهه فقط، وبين الإصرار القطري على دعم فصائل الثوار من خلال التجمع الوطني للإصلاح فرع الإخوان المسلمين في اليمن.

ولقد تناسى من أراد أن يصوب بهيمنة الحوثيين على الأراضي اليمنية طعنة قاصمة في الظهر لدول الخليج وخاصة للمملكة العربية السعودية أن هذه الدول تتغاضى في المواقف المصيرية عن مصالحها الوطنية الضيقة وحزازاتها غير المبررة أحيانا، وتتحرك عند الضرورة سوية وككتلة منسجمة في إطار جماعي تسعى دائما لأن يستوعب أكثر عدد من الأعضاء، ويحوز أكبر قدر من دعم الأشقاء والأصدقاء.

هذا هو الوضع الذي حصل في تشكيل التحالف العربي لعاصفة الحزم، الذي استطاع أن يضم في أيام قليلة نصف الدول العربية تقريبا وأكثرها قوة وفاعلية وإشعاعا في العالم العربي. تحالف حاز دعم القمة العربية المنعقدة في شرم الشيخ يومي 28 و29 مارس 2015، ونال تأييد قوى إقليمية وازنة كتركيا وباكستان المحتمل انضمامها لصفوفه، ومباركة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية التي عبرت عن الاستعداد لدعمه لوجيستيا واستخباراتيا.

في سياق كهذا ليس مستغربا أن يبادر المغرب إلى الانضمام لهذا التحالف، الذي يجد سنده القانوني في المادة الثالثة من معاهدة الدفاع العربي المشترك التي يجري نفخ الروح فيها من جديد، والتي تعطي للدول العربية حق المبادرة لتوحيد خططها ومساعيها في اتخاذ التدابير الوقائية والدفاعية التي تقتضيها حالة وجود خطر حرب داهم أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، وكذلك في ميثاق التضامن العربي الذي وافقت عليه القمة العربية الثالثة في الدار البيضاء سنة 1965، ونص على ضرورة العمل على تحقيق التضامن في معالجة القضايا العربية.

وليست هذه أول مرة يتحرك فيها المغرب على هدي ميثاق التضامن العربي (البيضاوي المغربي المولد) دبلوماسيا وعسكريا. لقد فعل ذلك عندما أرسل وحدات قتالية بمعداتها قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973 للمرابطة في الجولان السوري والمساهمة في تحرير بعض أجزائه، وعندما أرسل جنوده لمنطقة العرعر للمساهمة في الدفاع عن المملكة العربية السعودية إزاء أي غزو محتمل من قوات صدام حسين، الذي كان قد غزا الكويت في غشت 1990.

وقد حرص المغرب على أن يبين بأن مساهمته في عاصفة الحزم تهدف أيضا إلى الحفاظ على وحدة التراب اليمني ومنع أي تهديد انفصالي. ويعرف اليمنيون جيدا صدقية هذا الموقف الذي جسده سنة 1994 بالنصيحة التي أسداها المغفور له الملك الحسن الثاني لمبعوث الرئيس اليمني السيد يحي العرشي في ذروة حرب الانفصال المشتعلة آنذاك بين المؤتمر الشعبي العام بزعامة الرئيس علي عبد الله صالح والحزب الاشتراكي بزعامة نائب الرئيس حينها علي سالم البيض.

ولا شك أن الاعتبارات السياسية والدينية (هواجس التمدد الشيعي) وحجم العلاقات الثنائية وعمقها مع الدول الخليجية قد لعبت دورا كبيرا في قرار  المغرب، الذي يردد على الدوام أن أمن منطقة الخليج جزءا أصيلا من أمنه. وقد ارتبط مع معظم تلك الدول باتفاقيات أمنية وعسكرية مفعلة على أرض الواقع كما يجب.

ومن المؤكد في ظل استمرار التعنت الحوثي أن عاصفة الحزم لن تتوقف قريبا، وقد تشمل عمليات أرضية إذا اقتضت الضرورة كما يستشف من التصريحات القادمة من العواصم المعنية، وكما عبر عن ذلك بيان القمة العربية الذي أوصى بمواصلة العاصفة إلى حين امتثال الحوثيين للشرعية السياسية في اليمن والعودة إلى ربوعهم في صعدة، واستئناف الاتصالات الداخلية وفق آليات المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني.

ومع استمرار الطلعات الجوية لعاصفة الحزم بدأت تبرز معطيات جديدة على أرض الواقع ميدانيا وإقليميا ودوليا أيضا لعل أبرزها المواقف المنددة الصادرة عن طهران التي استثمرت كثيرا في دعم الحوثيين ممنية النفس بإمكانيتهم منحها موطئ قدم على باب المندب وخليج عدن يمكنها من ضرب مجموعة عصافير بحجر واحد حيث ستجلس حينها إلى كبار العالم من موقع قوة، وستضغط على السعودية من خاصرتها الجنوبية الهشة وإلهائها عن دورها الإقليمي المعتاد، وعلى مصر من باب القدرة على التأثير في مداخيل قناة السويس إن هي تجاوزت حدودا سترسم لها.

والراجح أن إيران لن تستكين ولن تقبل بالوضع الجديد الذي تسعى عاصفة الحزم إلى إرسائه في اليمن، لاسيما وأن هذه العاصفة بدت كرد فعل سريع على أوهام السيد علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني بشأن بدء استعادة عرش كسرى في المنطقة بعد وضع اليد الفارسية على بغداد. وتدلل الحملة الإعلامية التي تقودها وسائل الإعلام الإيرانية والعربية الدائرة في فلكها عن أن طهران لن تغامر بالمواجهة المباشرة، ولكنها لن تقف مكتوفة الأيدي.

واستنادا على سوابق مماثلة، فإن إيران أذكى من أن تزج بنفسها رسميا في صراع مباشر يفضح حقيقة نواياها الهيمنية. وأغلب الظن أنها ستعمد إلى قدراتها على التشويش من خلال العمل على توتير بعض ساحات التقاطع مع المملكة العربية السعودية. وأكثر ساحة مرشحة لذلك هي البحرين حيث يمكن استخدام محاكمة أمين عام جمعية الوفاق الإسلامية علي سلمان ذريعة لتسخين حراك الفصائل الشيعية.

وإذا ما أخذ اليمنيون بعين الاعتبار حديث أمين عام حزب الله اللبناني مباشرة بعد عاصفة الحزم عن اعتبار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السيد علي خامنئي إماما للمسلمين ووليا لأمرهم، وما سيولده من ردود فعل غاضبة وثائرة في العالم السني، وما سيحدثه من استنفار في التنظيمات الإرهابية كالقاعدة المتواجدة بينهم وداعش الباحثة عن مكان لها هناك، فإنهم سيجدون أنفسهم في مستنقع الفتنة المذهبية المستعرة داخل العالم الإسلامي. وفي وضع كهذا أي مستقبل لليمن السعيد وهو يتأرجح بين هلال شيعي عتيد وبدر سني يتراءى من بعيد؟

قديما قيل الحكمة يمانية، فهل أهل اليمن قادرون على استحضارها الآن؟