هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني.
ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت "أنفاس بريس" عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا.
- مسعودة الوزكيتية: مؤسسة باب دكالة بمراكش
شكلت مسعودة أو عودة الوزكيتية، نموذجا للمرأة المغربية في العهد السعدي، إذ لم ترهنها حياة القصور، ولا إغراءات السلطة، عن المساهمة في بناء مجتمعها والانفتاح على قضاياه.
فقد كانت مسعودة بنت الشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتي، أكثر اهتماما بالقضايا الاجتماعية لوطنها، وشاركت فيها بشكل فعال، مما جعلها محط اهتمام العديد من المؤرخين والمهتمين بالشأن الاجتماعي في عصرها.
«فكم جهزت من يتامى، وكم زوجت من أيامي، وكم بذلت من صدقات، وكم أجزلت من صلات...»، يقول العباس بن إبراهيم.
وإلى جانب اهتمامها بالجانب الاجتماعي، كانت مسعودة والدة السلطان أحمد المنصور السعدي، الذي حكم المغرب ما بين 896 ھ و1012 ھ، حريصة على بناء المرافق العامة، « فأنشأت في هذا السبيل العديد من المساجد والقناطر والكراسي العلمية...»، يقول عبد الوهاب بن منصور محقق كتاب "روضة ألآس".
فأم المنصور هي التي أسست مسجد باب دكالة بمراكش عام 965 ھ، وأوقفت عليه نحو سبعين حانوتا وغيرها، وأقامت بإزائه مدرسة للطلبة الغرباء ومكتبة وذخائر كتبت على بعضها بخط يدها، يقول الأستاذ عبد العزيز بعبد الله، في كتابه "معطيات الحضارة المغربية".
وتزعم العامة ـوهذا شأنها دائماـ «أنها بنت المسجد المذكور كفارة لما انتهكته من حرمة رمضان، وذلك أنها دخلت بستانا من بساتين قصورها وهي في حال الوحم، فرأت به خوخا ورمانا فتناولتهما وأكلت منهما في نهار رمضان، ثم ندمت على ما صدر منها وفعلت أفعالا كثيرة من باب البر رجاء أن يتجاوز الله عنها، ومنها الجامع المذكور، وما زال النساء والصبيان، يسجعون بقضيتها إلى الآن فيقولون: عودة أكلت رمضان بالخوخ والرمان...»، يقول الناصري.
ولم تقف اهتمامات والدة أحمد المنصور، عند حد بناء هذه المرافق، بل تعدتها إلى تسييرها ومراقبتها وصيانتها إذ، (حبست عليها الأحباس الطائلة) يضيف عبد الوهاب بن منصور.
ويبقى نص التحبيس، الذي خصت به، مسعودة بنت الشيخ الأجل أبي العباس أحمد بن عبد الله الوزكيتيالوارززاتي، مسجد باب دكالة من مراكش الحمراء المحروسة، أحد أهم مآثرها إلى جانب القنطرة العظيمة على وادي أم الربيع، خير دليل على حجم الأوقاف التي كانت تحبسها على هذه المرافق العامة.
ظل ذلك دأب مسعودة زوجة أبي عبد الله المهدي «المتحدث بنباهة شأنها، المعروفة بسداد النظر وإصابة الرأي، والحائزة درجات السبق بالمبادرة والسعي في الخيرات وأعمال البر والإيثار للأولياء»، يضيف صاحب كتاب الإعلام، إلى أن فارقت الحياة في السابع والعشرين من المحرف فاتح سنة 1000 ھ.