الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد بلمو: أحمد بنجلون.. رحيل قامة شامخة في أرض النضال الديمقراطي

محمد بلمو: أحمد بنجلون.. رحيل قامة شامخة في أرض النضال الديمقراطي

"فُقْدانٌ يُبَاغِثُ فُقْدَاناً/ تَحْتَ الجِسْرِ/ فَوْقَ الصَّبْرِ/ عَلَى سَرِيرِ مَشْفَى/ تَمُوتُ وَاقِفَةً أَشْجَارِي/ تقولُ لٍلنَّتانَةِ لِلنذَالَةِ لِلْفَسَادِ الْمُتَنَطِّعِ/ إِرْحَلْ مِنْ قَرارِي/ إرْحَلْ مِنْ خِيارٍي/ إرْحَلْ مِنْ دِيارِي/ إرْحَلْ مِنْ ليلي وَنَهَارِي".

يوم حزين وحالك هذا الذي رحل فيه أستاذي الجليل المناضل الثوري والصحافي اللاذع البارع الأستاذ أحمد بنجلون.. لم أتقبل خبر وفاته الذي صدمني وهزني هزا، ليوقظ في كياني شريط ذكريات جميلة رفقة الفقيد.. عرفته عندما كان مديرا لأسبوعية "المسار" الممنوعة.. كان قد نشر لي في ثمانينات القرن الماضي قصيدة شعرية على صفحة كاملة من جريدة "المسار" الثقافي بعنوان "بيانات للحزن والفرح- من تسريبات المدن المحاصرة".. آنذاك لم يكن يأبه بي أحد من النخبة المحتكرة للثقافة والإعلام ببلادنا، فقد كنت مجرد طالب قروي يتابع دراسته بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، عندما بعثُ بالقصيدة عبر البريد إلى عنوان الجريدة، فلم تخطئ العنوان، لأن الراحل لم يكن من المثقفين المتعجرفين في أبراجهم الوهمية، أولائك الذين كانوا يمنحون صكوك النشر لمن يريدون من متحزبيهم وزبانيتهم، بل كان قارئا متفتحا ونبيها وديمقراطيا بالفعل وليس بالادعاء.

تلك كانت بداية معرفتي بالراحل الذي لن يموت في قلبي ووجداني.. لقد كان تجاوبه مع كتاباتي بداية الورطة التي جعلتني أختار مهنة الصحافة وأمارسها منذ ذبك الحين لأزيد من 15 سنة قبل أن أهجرها تماما ابتداء من 2006... لقد شجعتني عنايته على بعث عدد من المقالات والنصوص من الجامعة للنشر دون معرفة مباشرة بيننا.

بعدما تخرجت مد لي يد المساعدة، فاحتضن تجربتي الصحفية في بدايتها وعلمني بجريدة "الطريق" أسس ومبادئ الكتابة الصحفية.. كان شرفا كبيرا لي أن أتتلمذ على يدي مناضل خبر السجون والمعتقلات وأصناف التعذيب دفاعا عن مغرب حر لشعب حر.. فتح مكتبه بشارع محمد الخامس بالرباط بعدما تم إغلاق مقر الجريدة بالدار البيضاء لطاقم التحرير الصغير المكون من الزملاء محمد بوشطو ويوسف بوستة وعبد الواحد المهتاني... كان قدوتي في الكتابة الصحفية، أقرأ وأعيد قراءة افتتاحياته اللاذعة حول الوضع السياسي والحقوقي...

بفضله التقيت بالشاعر المغربي الكبير أحمد المجاطي الذي كانت تربطه بالسي أحمد بنجلون صداقة عميقة، حيث انتدبني لإجراء حوار معه للجريدة كان آخر حوار مع الشاعر المجاطي قبل رحيله بأسابيع قليلة... فذهبت إلى بيت الشاعر حسب الموعد الذي حدده معه السي بنجلون، وأنا غارق في خشوع وخوف التلميذ من مواجهة شاعر كبير رفض مرارا إجراء حوارات كانت تعرض عليه لأنه كان يتلافى السقوط في الرقابة التي كانت تمارسها الصحف المغربية، هو الذي كان يرغب في التعبير لآخر مرة عن رأيه في اتحاد كتاب المغرب والمشهد الشعري والنقدي والثقافي المغربي بكل صراحة وبعيدا عن مقص الرقيب الحزبي والسياسي... كانت ثقته كبيرة في المناضل أحمد بنجلون مدير الجريدة بحكم الصداقة الخاصة التي كانت تجمع بينهما، لذلك قبل اقتراحه اسمي لكي أجري معه ذلك الحوار الاستثنائي رغم أنه لا يعرفني..

لقد فقدت بلادنا، وليس فقط حزب الطليعة، ولا اليسار المغربي، مناضلا يساريا صارما وإنسانا متفتحا وديمقراطيا متواضعا يتقن فن الحوار والإنصات، دون أن يتنازل على مبادئه وأفكاره، ودون أن يصادر أفكار ومبادئ الآخرين.

لقد  فقدت أيضا صحافيا واضحا وبارعا باللغتين العربية والفرنسية في الكتابة والسخرية، ومثقفا خفيف الظل ينتمي روحا وجسدا للعمال والفقراء والمهمشين في أرضهم ويحلم ويناضل من أجل مغرب يسع جميع مواطنيه..

لذلك، من الصعب أن تجود علينا الحياة بمثقف متشائل وقامة نضالية شامخة ونادرة من حجم القائد أحمد بنجلون رحمة الله عليه.