بين كل المؤشرات والمعاني التي تحملها حادثة مقتل جنرال إيراني بارز، وعدد من قادة حزب الله، في عملية عسكرية إسرائيلية قرب حدود الجولان المحتل، يبدو أن مؤشراً خطيراً فات الكثيرين، وهو انعدام النديّة في العلاقة بين بشار الأسد وطهران. وهو ما يُنبئ بأن الدواء الذي تجرعه الأسد لإنقاذ كرسي حكمه، متمثلاً في الاستعانة بالإيراني، قد يكون السمّ الذي يقضي به نحبه.
ذلك أن تواجد قيادات إيرانية وأخرى من حزب الله قرب حدود الجولان السوري المحتل، يعني أن النظام السوري فقدَ تماماً ورقته الماسيّة، التي لطالما بنى على أساسها قيمته في منظور إسرائيل، وهي ضمان أمن حدودها في الجبهة السورية.
هذه الورقة سُلبت تماماً من جانب النظام السوري. من سلبها بدايةً كانت فصائل مناوئة للنظام، أبرزها "جبهة النُصرة"، وهي الفرع السوري لتنظيم "القاعدة". ويسلب ما بقي منها الآن، الحليف الإيراني، حيث بات أمن حدود إسرائيل، أو ما بقي منها بعيداً عن سيطرة "النُصرة"، في قبضة حزب الله والحرس الثوري الإيراني.
إسرائيل باتت اليوم أمام خصمين على مقربة من حدودها، الجهاديون، وحزب الله "الإيراني". ورغم البراغماتية العالية التي يتمتع بها الطرفان المذكوران، والتي تقتضي عدم التحرش بإسرائيل في المدى المنظور، إلا أن تل أبيب تُدرك أن الطرفين، النُصرة، والإيرانيين ممثلين بحزب الله، يدخرون ورقة أمن حدودها الشمالية، لاستخدامها حين الحاجة.
أما النظام السوري، فيبدو أنه بات خارج اللعبة تماماً. فبعد عقود من تجميع أوراق القوة الإقليمية في قبضة الأسد الأب، بصورة عززت من استقرار حكمه وتقبله، على مضض، في المنظومة الإقليمية بضوء أخضر غربي، أضاع الأسد الابن كل تلك الأوراق، وسلمها لطهران، ليصبح هو ذاته، ورقة قوة، وليس لاعباً، وربما، في الحسابات العملية، يبدو أنه بات ورقةً ضئيلة الأهمية، تقترب من أن تكون عبئاً على الإيرانيين.
إذاً، لم يعد نظام الأسد يُدير أياً من جبهاته الخطرة. باتت كل تلك الجبهات في قبضة الإيرانيين، وبإدارتهم.
ماذا يعني ما سبق؟
يعني أن عنق بشار الأسد بات في قبضة طهران، وبات الرجل تحت رحمتهم.
لا بدّ أن بشار الأسد يُدرك ما سبق جيداً، لكن هل هو في حالة قبول تام بذلك؟، أم أنه يسعى مع نخبته الضيقة للتملص من السيطرة الإيرانية التي باتت مُحكمة في دمشق؟
يُعتقد أن استهداف إسرائيل للجنرال الإيراني البارز، محمد علي دادي، كان نتيجة اختراق أمني إسرائيلي، داخل المنظومة الاستخباراتية السورية. استهداف يكرر تجربة اغتيال عماد مغنية، القائد الأمني والعسكري البارز لحزب الله في قلب المربع الأمني المحصّن بدمشق، عام 2008.
مرة أخرى، تكون الاستخبارات السورية نقطة مقتل لحزب الله وإيران. ومرة أخرى تُنكر إسرائيل معرفتها بهوية الشخصية التي اغتالتها، كما فعلت بعيد اغتيال مغنية، كي تُخفي على ما يبدو معالم اختراقها الأمني الخطير في أوساط المخابرات السورية. ومرة أخرى تكون سوريا الساحة التي يُغتال فيها قادة من "محور المقاومة"، من إيران، ومن حزب الله، ومن حماس سابقاً.
حوادث الاغتيال تلك التي تتكرر لتطال كوادر قيادية بارزة من الحلفاء، على الأرض السورية تحديداً، تدفع لتساؤلات كثيرة، خاصةً إذا فهمنا تركيبة العلاقة بين طهران ونظام الأسد خلال العقود الماضية، والتي كانت في عهد الأسد الأب علاقة تحالف مصلحية فيها الكثير من النديّة.
في عهد الأسد الابن، وتحديداً خلال العقد الماضي، تعززت أهمية النظام السوري في هذه العلاقة التحالفية النديّة مع طهران، فالأخيرة خاضت في معظم سنوات العقد الماضي صراعاً بارداً مريراً مع الغرب على خلفية ملفها النووي، وكانت سوريا المعبر اللوجستي لتمرير السلاح والتدريب والدعم لحزب الله، ولحماس أيضاً، بغية استخدامهما منصات لتهديد أمن إسرائيل حين الضرورة.
لكن منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، بدأت نديّة العلاقة بين النظام السوري وحليفه الإيراني تتراجع لصالح الأخير. بدأ هذا التراجع منذ المراحل الأولى التي استعان فيها بشار الأسد بخبراء أمنيين إيرانيين لمساعدته في إخماد الاحتجاجات بسوريا.
ومع تطور حاجة الأسد لإيران، من حاجة أمنية إلى حاجة عسكرية مباشرة، واستجابة إيران عبر دفع عشرات آلاف المقاتلين الشيعة من لبنان والعراق لدعم نظام الأسد، تفاقم وزن إيران الميداني في الساحة السورية، وتراجعت نديّة نظام الأسد معها حتى كادت تنعدم.
وفي كل مرة كانت قوات النظام والميليشيات المحلية تُخفق في جبهة، كانت الميليشيات الشيعية وتلك التابعة لحزب الله، والخاضعة للإدارة والتوجيه الإيراني، تنجح فيها. فصمد النظام بفضل إيران عسكرياً وأمنياً، لكنه فقدَ حصرية إدارته للمشهد الميداني في بلده، لصالح الإيرانيين وممثليهم على الأرض.
وهكذا بدأت إيران تُثمّر استثماراتها في سوريا، فبعد عقود من ترتيب جبهة جنوب لبنان لتكون منصة إيرانية لتهديد إسرائيل، بغية دعم مفاوضات الملف النووي الإيراني مع الغرب، بدأت إيران تعمل على تأسيس جبهة جديدة، وهي جبهة الجولان، إذ أثبتت التجربة لعقود أن أفضل استثمار لأية قوة إقليمية طامحة في المنطقة، هو الاستثمار في أمن إسرائيل.
لم يعد بشار الأسد قادراً اليوم على تهديد إسرائيل، فقد سلّم السلاح الكيماوي، وتخلى عن جبهة الجولان للإيرانيين، ولم يعد يمسك بالطريق اللوجستي الذي ينقل الأسلحة من إيران، عبر سوريا، إلى حزب الله في لبنان، فهذه الطريق باتت تحت سيطرة الإيرانيين أيضاً.
انعدمت تماماً النديّة في العلاقة بين بشار الأسد وطهران. أو بالأحرى، أهدرها بشار الأسد تماماً خشية فقدانه لكرسي الحكم. لكنه لم يكن على دراية أن الدواء الذي تجرعه لإنقاذ كرسيه، قد يكون سُمّاً يقضي به نحبه.
اليوم، بات بشار الأسد صورةً فوتوغرافية بدمشق، يمكن أن تستخدم إيران بقاءها واستمرارها لتقول لشعبها، وللمحيط الإقليمي، وللخصوم الدوليين، أنها انتصرت في المواجهة بسوريا. لكنها في الوقت نفسه، وفي حال أثقلت عليها تلك المواجهة، بتبعاتها وتكاليفها، قد تضحي بتلك الصورة الفوتوغرافية في صفقة أو تسوية ما. فالرجل بحد ذاته، بشار الأسد، لم يعدّ يمثل للإيرانيين قيمةً كبيرةً، وهي عبر نفوذ قياداتها العسكرية والأمنية، والميليشيات التابعة لأمرتها من حزب الله ومن الشيعة العراقيين، إلى جانب اختراقاتها الأكيدة، والكبيرة للغاية، للجيش والأمن السوري، قادرة على إعادة ترتيب الوضع السوري بمعزل عن بشار الأسد وعائلته وبضعة أشخاص محسوبين على الدائرة الضيقة المحيطة به.
وبذلك، قد تكون إيران التي أبقت بشار الأسد في كرسي الحكم، هي ذاتها التي تنزعه منه، خاصةً إذا حاول التملص من سيطرتها المُحكمة على صنع القرار بدمشق، أو صحت النظريات التي تقول بأن نخبة الأسد الأمنية هي وراء تسريب اسم ومكانة وموقع الجنرال الإيراني البارز، للإسرائيليين، على أمل الحفاظ على آخر خيوط التواصل مع الغرب وإسرائيل، علّه يساعده في التخلص من حالة الاستلاب الكامل لإيران.
لا يمكن الجزم بأن بشار الأسد يحاول التملص من السيطرة الإيرانية المُحكمة على صنع القرار بدمشق، لكنه لا بد يُدرك بأنه لم يعد صانع القرار في عاصمته، وأن القرار فيها بات يأتي من طهران حصراً، وما حادثة تصفية الجنرال الإيراني دادي، قرب الجولان، إلا تأكيداً على تلك الحقيقة.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)