الثلاثاء 21 مايو 2024
ضيف

الباحث محمد المصطفى عزام: هل الإساءة للرسول الكريم حرية تعبير أم حرية "تعـيـيـر"؟

 
 
الباحث محمد المصطفى عزام: هل الإساءة للرسول الكريم حرية تعبير أم حرية "تعـيـيـر"؟

لقد قال القوم "لون الماء لون الإناء " و بإمكان الإنسان أن يحقق إبداعيته النافعة حالا ومآلا لتتسع العبارة باتساع  الرؤية إذا ما وسع إناءه وصفي ماءه ، لا يتأتى له ذلك، إلا إذا تخطى أناه ولبى داعي مولاه . هذا ما ختم به الأستاذالباحث،  محمد المصـطفى عزام،  كتابه الـــممتـع (  الخطاب الصوفي بين التأول والتأويل )، وقد  طلبنا رؤيته،  فيما يحدث اليوم  مع إصرار شارلي إيبدو  ومن والها على الإساءة  فكان رده كالتالي:

أن الرسول عليه السلام إذا كانت لا تكفي فيه الكلمات ولا العبارات فإن الموقف يقتضي مع ذلك الإسهام بهذه "البركة ". في حق ما سماهم بـ "المستعورين ".

 منذ بضع سنوات وظّف "المُسْتَعْوِرون" الجُدُد التصوير المُبتَدَع حديثا (الكاريكاتور)، للتعبير عن كراهية الإسلام ونبيه عليه السلام، مُضيفين هذا الأسلوب إلى الموروث من أساليب أسلافهم. ووصْـفُنا لأولئك بالمستعورين مأخوذ من العَوَر، إذ ليست لهم إلا عين واحدة؛ ومأخوذ كذلك من العَوْرة، لأنهم لعَوَرهم لا يحبون أن يروا في الإسلام إلا العورات، ولو أنْ يختلقوها اختلاقا؛ وقد تحدث الشاعر سابقا عن أن عين البغض لا ترى إلا المساوئ.

نعم، إن وراثة العداء للإسلام من جهة، والجهل بحقائقه من جهة ثانية، وتدهور الواقع الحالي لأهله من جهة ثالثة، ثم جهالة بعض من يَنسبون أنفسهم إليه، مع جهالتهم وتهورهم من جهة رابعة، فضلا عن المؤامرات الدنيئة التي يحوكها الصهاينة وأشياعهم للإسلام منذ ظهوره؛ كل ذلك لم يزد الإعلام الاستعواري إلا تعاميا عن الحق، تعاميا تغذيه نوازغ الغل ونوازع التعصب، فلا يُفرز إلا "فنّا" عفنا ساقطا في حضيض التحريف والتزييف والتخريف؛ وقد صوّر شاعرنا مثل هذا الوضْع بقوله:

وإذا أتتك مذمّتي من ناقص      فهي الشهادة لي بأني كامل

نعم قد يكون لـ"خربشات" "شارلي" اعتبار في "إبداع" الحقد والكراهية؛ لكننا نحن المسلمين ورثنا من نبينا الرؤوف الرحيم ذي الخلُق العظيم أمثال قوله: «جئت بالحنيفية السمحة»، وقوله: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؛ وفي الوحي القرآني الذي أنزله الله عليه نهي حتى عن سبّ المشركين: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله... ﴾؛ كما نهى عن التنادي بمكروه الألقاب: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾، وكذا عن ذكر الغائب بما يكره: ﴿ولا يغتبْ بعضكم بعضا﴾، وغير هذا كثير في معالي الأخلاق وفي ممارستها عبر تاريخ المسلمين.

أولم يعلم أصحاب "شارلي" أن محمدا رسول الله الكريم قد تعرض قبل تصاويرهم المَرَضية، مثلما تعرض إخوانه الأنبياء قبله، للمحاربة والاستهزاء من أعداء الحق؛ يخبرنا الوحي القرآني بذلك قائلا: ﴿ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هُزُؤا...ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون﴾؛  فهم لم يُبدعوا شيئا، بل إن ما يصورون ويتصورونه مؤذيا، ما هو إلا لعب صبياني لإضحاك أطفال العقول؟ وأنهم لم يبلغوا معشار ما فعله كفار قريش وأضرابهم، ولما لم يفلحوا رجعوا إلى الحق مذعنين؛ أولم يقرأ "الشارليون" أن أجدادهم من مزيفي المسيحية في القرون الوسطى لم يألوا جهدا في تشويه صورة الإسلام ورسوله عليه السلام، حين رأوا إقبال الأوروبيين في إسبانيا على دينه؟ وأن مَن توالوا بعدهم واصلوا تسميم أجيال بلواقح البهتان؛ ومن ثم ظلت الثقافة الغربية عموما موسومة بالعداء للإسلام حتى العصور المتأخرة، ولم يستطع اكتشاف بعض حقائقه إلا أقل القليل من المتعطشين إلى المعرفة الموضوعية؛ وقد تكفي بضع شهادات من بعضهم لبَهْت الاستعواريين وتسفيههم ومقتهم، وإلا فإن الشمس في غير حاجة قطعا إلى دليل، كما لا يَضيرها في شيء أن ينكر ضوءها ضرير؛ وقد أرشدتنا الحكمة القرآنية الخالدة إلى أن العمى الحقيقي هو ما يصيب بصائر القلوب لا أبصار العيون.

  ليس الكفيف الذي أمسى بلا بصر      إني أرى مِن ذوي الأبصار عميانا

كما قال الشاعر المهجري أيضا:

والذي نفسه بغير جمال           لا يرى في الوجود شيئا جميلا

أوَلم يسمع المستعورون  شيئا عن اعتراف علماء الغرب المنصفين بأوروبا ما كانت لتخرج من ظلمات جهلها لولا أنوار العلوم التي ابتكرها المسلمون أو طوروها، في جميع مجالات المعرفة، كل ذلك كان بفضل رحمة العالمين المهداة محمد عليه السلام، وما جاء به من بثٍّ لأنوار الهدى التي خلصت القلوب من أقفالها، وحثٍّ على طلب العلم الذي حرّر العقول من أوهامها، فسادَ الحقُّ والعدل والحرية والمساواة، وشعّت المحبة والفنون حيثما حل المسلمون؛ ولكن أنّى لمن في قلوبهم مرض زادته "الإسلاموفوبيا" مرضا أن يبصر شيئا من ذلك؟

 ولا تخفى دناءة أغراض المستعورين وما يجْنون من إذكاء نيران التعصب والتطرف والعنصرية، كما لم يخْفَ استجداؤهم التبرعات جراء الهجوم على صحيفتهم، وكذلك إصرارهم على الاستهتار بالمقدسات طمعا في ترويج تفاهاتهم؛ لكنهم لن يجنوا غير الأشواك، ولن يُعرِّضوا أنفسهم وبلدانهم إلا لمزيد من العنف الذي بدأ الواعون من الغربيين، شعوبا ورؤساء، يدركون عواقبه عليهم وعلى العالم أجمع؛ ونضرب لأولئك ما تثيره حركة "بيجيدا" في ألمانيا، لعلهم يرعوون.

بعد هذا، ألا يحق – أو يجب – أن نتساءل مع المتسائلين الذين تشككوا في خلفيات ذلك الهجوم وأهدافه؟

ـ أليس للحدث ونتائجه علاقة بسعي برلمانات أوروبا للاعتراف بشرعية الدولة الفلسطينية، وباستياء إسرائيل ورعبها من ذلك؟

     ـ ألا يحقق عزْو الحدث للمسلمين أكبر استفادة لإسرائيل، لكونه يساهم في تثبيت وصمة الإرهاب بهم وتشويه مصداقيتهم لدى الرأي العام العالمي؟

ـ ما هي الرسالة التي ينقلها سيْر رئيس وزراء دويلة تمارس أبشع إرهاب في تاريخ العالم الحديث في مقدمة المستنكرين؟.

ومهما تكن الدوافع والحيثيات والأهداف، فإن مواقف المستعورين مكشوفة وأغراضهم معروفة، كما كانت مواقف المستعمرين وأغراضهم من قبل؛ لكنهم قد لا يعلمون – أو لا يريدون أن يعلموا – أن الإسلام ونبيه الأكرم أعز وأعلى من أن تناله الأوهام العليلة والمقاصد الخسيسة، ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون﴾.