خمسون عاما مرت كما يمر الضوء في شقوق الذاكرة، صامتًا لكنه يترك أثره العميق في كل شيء. عند بوابة القاعة، كان الحضور يتحدث بلا كلمات، عناق وتبادل تحايا، أعين تلمح بعضها بعد غياب، وابتسامات تعيد اللحظات المضيئة من تاريخ الشعلة والمدينة إلى الحياة، أجيال مختلفة، بعضها يقرأ السنين في ملامح الآخرين، وبعضها يسير على دروب البدايات، اجتمعت لتعيش مساءً استثنائيًا بدار الشباب الكارة، مساء خرج من تقويم الزمن العادي، ليغوص في حقل الوجود، حيث تصبح الذكريات فعلا حيا، والفرح مرايا للوفاء.
في تلك اللحظة، كانت المدينة تستمع إلى نفسها عبر أصوات أبنائها، تستعيد حكاياتها كما تروى السير الطويلة، بتؤدة، وبامتنان يملأ القلوب. كان الجو مفعما بالدفء والاعتراف، لحظة جماعية نادرة، اعتراف بالمسار وتجديد للعهد مع فكرة رافقت المواطن المغربي نصف قرن، فكرة تؤمن بأن التربية والثقافة ليست شعارات جوفاء، بل ضرورة وجودية، وفضاء يبني الإنسان ويصون كرامته، ويمنحه القدرة على أن يرى في الماضي بريق المستقبل. في تلك الأمسية، حضرت الكارة بكامل روحها، لم تحضر كجغرافيا صامتة بسهولها المعطاء، بل ككائن حي يكتب ذاته، عبر ذاكرته المشتركة، وعبر تلك القدرة الخفية على الجمع بين البساطة والعمق التي تميز جمعية الشعلة، مدينة من سهول الشاوية، هادئة في مظهرها، عميقة في معناها، تحمل من الأرض صلابتها ومن الإنسان شهامته.
هنا لا تُقاس المدن بعلو البنايات، بل بعلو القيم، ولا تعرف بالأضواء، بل بما تتركه في القلوب حيث الكارة ابنة قبيلة المذاكرة، تشبه أهلها، صادقة، عملية، متجذرة في العمل والصبر، مدينة تعلمت أن التنمية تبدأ من الإنسان، وأن الوفاء أسبق من الإسمنت.
في رحاب جمعية الشعلة فرع الكارة، في تلك الأمسية، تحوّلت دار الشباب إلى قلب نابض. بيت رمزي جمع أجيالا مختلفة، وجوها تحمل آثار الزمن وتجارب السنين، وأخرى ما تزال تخطو أولى خطواتها في درب الالتزام، ما جمع هذه النخبة لم يكن مجرد فضول الحضور، بل قناعة راسخة بأن جمعية الشعلة للتربية والثقافة لم تكن يوما إطارا مدنيا جامدا، وإنما مشروع حياة، ومساحة لتشكل الوعي، ومدرسة لتربية الإنسان على الحرية والمسؤولية والانتماء.
مع انطلاق الحفل الذي قدمه المنشط القدير حمودة وابير، تقدم الصمت على الكلام بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم انسكبت في القاعة بهدوء، فخلقت لحظة سكينة جماعية، كأن الزمن توقف قليلا ليصغي. تلتها لحظة النشيد الوطني، الذي ارتفع صداه كذاكرة مشتركة، وكجسر يربط الخاص بالعام، والاحتفال بالوطن منذ اللحظات الأولى، بدا واضحا أن الأمسية تراهن على المعنى أكثر مما تراهن على الفرجة.
امتلأت القاعة بحضور كثيف ومتنوع، فعاليات جمعوية وثقافية ورياضية، مسؤولون محليون، إعلاميون، وفاعلون مدنيون، إلى جانب جمهور واسع من أبناء المدينة. تنوع شكل انعكاسا لمدينة ما تزال تؤمن بأن الثقافة فعل جماعي،
حين صعد الأستاذ عزيز فايد، مندوب جمعية الشعلة بالكارة، إلى المنصة، خرجت كلمته من قلب التجربة. شهادة صادقة عن سنوات من العمل الهادئ، عن رهان يومي على الثقافة في مدينة تحتاج لمن يؤمن بها لا لمن يستهلكها، حديثه كان امتدادا لصدى الأمكنة، قريبا من الناس، مشبعا بروح الالتزام التي تجعل من المسؤولية علاقة إنسانية قبل أن تكون موقعا تنظيميا.
حين صعد الأستاذ عزيز فايد، مندوب جمعية الشعلة بالكارة، إلى المنصة، خرجت كلمته من قلب التجربة. شهادة صادقة عن سنوات من العمل الهادئ، عن رهان يومي على الثقافة في مدينة تحتاج لمن يؤمن بها لا لمن يستهلكها، حديثه كان امتدادا لصدى الأمكنة، قريبا من الناس، مشبعا بروح الالتزام التي تجعل من المسؤولية علاقة إنسانية قبل أن تكون موقعا تنظيميا.
ثم جاء صوت الجمعية في بعدها الوطني، مع كلمة رئيسها الأستاذ سعيد العزوزي. كلمة حملت الزمن في نبرتها، لكنها لم تتكئ عليه. خمسون سنة حضرت كذاكرة حية، وكأفق مفتوح، تحدث عن الشعلة بوصفها فكرة سبقت التنظيم، وعن التربية باعتبارها فعلا مقاوما في زمن التآكل، وعن الثقافة كحق جماعي لا يختزل في صالونات النخبة في كلمته هدوء الواثق وصلابة الملتزم، خطاب يرى في الاستمرار شجاعة، وفي التجديد مسؤولية، ويؤمن بأن الرهان الحقيقي يظل هو الإنسان.
استحضر مسارات مشرقة من تاريخ الجمعية كما استحضر أجيال الشعلة كمن يرسم لوحة من بساتين الزمن الجميل...وفي لحظة مشحونة بالدلالة، بدأت فقرات التكريم من حيث يليق أن تبدأ. توجه الاعتراف أولا إلى الأستاذ سعيد العزوزي، رئيس جمعية الشعلة للتربية والثقافة، في التفاتة رمزية حملت معنى الوفاء لمسار طويل من العطاء والالتزام. لم يكن التكريم احتفاء بشخص بقدر ما كان إنصافا لرؤية جعلت من العمل الجمعوي فعلا أخلاقيا ممتدا في الزمن حيث جرى هذا التكريم بحضور أطر وطنية وازنة، في مقدمتهم الأخوان محمد صادق ومصطفى الحويدك، حضور منح اللحظة بعدها الجماعي، وأكد أن الاعتراف، حين يكون صادقا، يتحول إلى احتفاء بالقيم والمسارات المشتركة.
بعد الكلمة والاعتراف، انفتح الفضاء على الفن بوصفه امتدادا طبيعيا للسرد. اعتلت مجموعة أمجاد الغيوان الخشبة، ومعها صعدت الذاكرة الشعبية بكل ثقلها الجميل. الإيقاعات حملت نفس الأرض، والكلمات استحضرت أسئلة الإنسان الكبرى. القاعة أنصتت، وبعض الأصوات ردّدت المقاطع، في لحظة امتزج فيها الحاضر بالماضي، وصار الغناء فعل استعادة للكرامة والحرية والانتماء.
موسيقى الصابا جاءت لتضيف بعدا آخر من الجمال حيث الأداء الرفيع والإحساس العالي، جعل الإنصات فعل مشاركة. وهنا قالت الموسيقى ما تعجز الكلمات عن قوله، وفتحت فضاء للتأمل. ولأن الحياة تحتاج إلى ضحك بقدر ما تحتاج إلى تفكير، جاء دور الفكاهيان حمادة والهجومات. ضحك ذكي، ساخر، خرج من تفاصيل الحياة اليومية، من هموم الناس وتناقضاتهم. ضحك لم يكن هروبا من الواقع، بقدر ما شكل مواجهة له بخفة ظل، وتحويلا للفكاهة إلى لغة وعي ومساءلة.
في قلب الأمسية، جاءت لحظة الاعتراف الجماعي. لحظة خفتت فيها الأضواء واشتد فيها الإحساس بالانتماء لتربة هذه المدينة إنها لحظة تكريم ثلة من الشخصيات التي أسهمت في خدمة المدينة:
. عبد المجيد علالي، الرجل الذي جعل من دعمه للشباب إيمانا بالمستقبل. مصطفى الترابي، الذي أعاد الأمل لمرضى المنطقة بمشروع إنساني نبيل. نور الدين جرار، الذي رأى في الرياضة تربية قبل المنافسة. بوشعيب خلدون، الذي حمل اسم المذاكرة إلى فضاءات الفن العالمية. صالح أمراس، صوت العيطة الذي حفظ الذاكرة الشعبية. محمد بياضة، نموذج العمل الهادئ المرتبط بالإنسان. رضوان بوعسيلا، رشيد السبيسي، عزيز عمرو، عبد الواحد شوقي، طارق الويهراني…أسماء اجتمعت لتشكل صورة مدينة تعرف كيف تعترف بأبنائها، وكيف تجعل من الوفاء ممارسة يومية.
في قلب الأمسية، جاءت لحظة الاعتراف الجماعي. لحظة خفتت فيها الأضواء واشتد فيها الإحساس بالانتماء لتربة هذه المدينة إنها لحظة تكريم ثلة من الشخصيات التي أسهمت في خدمة المدينة:
. عبد المجيد علالي، الرجل الذي جعل من دعمه للشباب إيمانا بالمستقبل. مصطفى الترابي، الذي أعاد الأمل لمرضى المنطقة بمشروع إنساني نبيل. نور الدين جرار، الذي رأى في الرياضة تربية قبل المنافسة. بوشعيب خلدون، الذي حمل اسم المذاكرة إلى فضاءات الفن العالمية. صالح أمراس، صوت العيطة الذي حفظ الذاكرة الشعبية. محمد بياضة، نموذج العمل الهادئ المرتبط بالإنسان. رضوان بوعسيلا، رشيد السبيسي، عزيز عمرو، عبد الواحد شوقي، طارق الويهراني…أسماء اجتمعت لتشكل صورة مدينة تعرف كيف تعترف بأبنائها، وكيف تجعل من الوفاء ممارسة يومية.
ومع نهاية الأمسية، كان لسان حال الحضور يقول خمسون سنة مرت، لكن الشعلة مستمرة بأبنائها ونبل رسالتها مستمرة لأنها لم تصنع من لهب عابر، استمرت لأنها تنسج خيوط علاقة طويلة بين الإنسان والثقافة، بين التربية والحلم.
غادر الحضور دار الشباب، لكنهم حملوا معهم دفء اللحظة، وإحساسا داخليا بأن الضوء الذي أُشعل منذ نصف قرن ما يزال قادرا على الإضاءة، بهدوء، بثبات، وبإيمان لا يشيخ.
غادر الحضور دار الشباب، لكنهم حملوا معهم دفء اللحظة، وإحساسا داخليا بأن الضوء الذي أُشعل منذ نصف قرن ما يزال قادرا على الإضاءة، بهدوء، بثبات، وبإيمان لا يشيخ.

