Sunday 14 December 2025
سياسة

محمد بنمبارك: خمسون سنة على طرد مغاربة من الجزائر.. الجريمة في انتظار الاعتراف

محمد بنمبارك: خمسون سنة على طرد مغاربة من الجزائر.. الجريمة في انتظار الاعتراف محمد بنمبارك

يظل التاريخ والذاكرة سيفان مسلطان على رقاب من أجرم في حق الانسانية فردا كان أو جماعة، فالتاريخ وعلى مر العصور كان ولازال أعظم شاهد، بمثابة الحارس الأمين على سجلات الوقائع والاحداث دون قدرة أحد على طمس أو تزوير الحقيقة أو العبث بها، بينما الذاكرة تمثل ذلك الخزان الحيوي والقلب النابض المتوارث تجعلنا على الدوام نعيش الماضي في الحاضر بشكل متجدد. ولا قدرة لأحد أن يقول طفحت الذاكرة، فالذاكرة خزان لا يمتلئ، إنها قعر بلا نهاية. وانطلاقا من واجب حفظ الذاكرة، لا بد من استحضار حدث أليم مأساوي اسمه " المسيرة الكحلة"، التي ظلت وصمة عار على جبين الجزائر في ظل حاكمها آنذاك هواري بومدين، أساءت بها وبشكل عميق للشعب المغربي إثر جُرم غير قابل للنسيان أو الطي، لا تنظره من جار تربطك به أواصر العروبة والأمازيغ والإسلام.

فماذا حدث؟ وكيف ولماذا؟ هي سردية ليست بالخفية ولا بالمجهولة، بل مكشوفة ومتداولة على نطاق واسع ولن آتِيَ بالجديد في الحدث، لكنه جدير بالتكرار والتذكير والتأكيد على إعادة السرد ثم السرد فالسرد، إلى حين عودة الحق لأصحابه. هي ذكرى أليمة موجعة جرح غائر في الذاكرة والجسد يأبى أن يلتئم، ننتظره وينتظرنا بحسرة وألم، يُطِل علينا من جديد ككل عام.

 

     ــــــــ المسيرة الكحلة:

     إِنَّه يوم الثامن/ 8 دجنبر 1975، ذلك اليوم الذي صادف عيد الأضحى المبارك، فتعود بنا الذاكرة لتضعنا من جديد أمام الحدث المفجع، حين أقدمت السلطات الجزائرية في تصرف طائش ودون أي وازع ديني أو إنساني أو أخلاقي أو اجتماعي أو مراعاة لروابط حسن الجوار، و لما هو حاضر من قواسم مشتركة تربط الشعبين الجزائري والمغربي، بأوامر صارمة متهورة جنونية اندفاعية من الرئيس الراحل هواري بومدين، بطرد تعسفي في حق 45 ألف أسرة مغربية من الأطفال والنساء والرجال لا فرق، واقتلاعهم بالقوة من رحم عائلاتهم ومساكنهم ومدارسهم وجامعاتهم وتجارتهم ومشاغلهم وأعمالهم، وحرمانهم من ممتلكاتهم العقارية والعينية والمالية، التهمة مغربي لا غير، وهو قرار صدر باعتراف السلطات الجزائرية نفسها بأن الطرد جاء ردا على تنظيم المغفور له الملك الحسن الثاني للمسيرة الخضراء لاسترجاع الأقاليم الجنوبية للمملكة؛ في عملية إقحام فَجَّة لمواطنين مغاربة أبرياء، لتصفية حسابات سياسية لنظام بومدين، والتي لاتزال تسود صفحات العلاقات المغربية الجزائرية، وحاضرة بقوة ضمن ملفات الخلاف بين البلدين. (مسيرة خضرة يقابلها مسيرة كحلة) ولكم في اختلاف الألوان عِبرة يا أولي الألباب.

     كان الطرد المفاجئ والمباغت صادما قاسيا مؤلما للمغاربة ضحايا هذا القرار التعسفي، فقد داهمت الشرطة الجزائرية بيوتهم ومقرات عملهم وفي المدارس والجامعات وأينما وجدوا، كأنهم يبحثون عن مجرمين فارين، واقتادوهم إلى مخافر الشرطة في حالة اعتقال، ومباشرة بعد تجميعهم أخذوهم في حافلات ورموا بهم هكذا على الحدود المغربية. بعد سَلْبهم أموالهم ومتاعهم وكل ما يملكون من منقولات حتى الحلي ذهب أو فضة من قبل الشرطة، حتى المرضى لم يسلموا من المطاردة والاعتقال والتفتيش، والطرد.

 تمزقت الأسرة وتقطعت الأرحام: أب مغربي حرم من بيته وزوجته الجزائرية، مغربية تم فصلها غصبا من زوجها الجزائري وأبنائها، أبناء مغاربة انتزعوا من حضن أمهاتهم الجزائريات، عمليات تفكيك أسري معقدة مريعة فظيعة، لم تثر في المجرم أية ذرة من الوعي أو يقظة ضمير أو إحساس إنساني وإدراك بما تقترف يداه/ أوامره من انتهاك في حق هؤلاء الأبرياء المقيمين منذ سنين طوال في أمن وسكينة واستقرار مع إخوانهم الجزائريين الذين يتقاسمون معهم كل أشكال الحياة. تنكروا للتاريخ المضيء، لكن هذا التاريخ سيظل سيفا مسلطا على رقابهم. الجدير بالإشارة أن هذه الجريمة تمت وقتها في ظل تعتيم رسمي وإعلامي جزائري، لكنها عند المغرب كانت صدمة مدوية لهذه المأساة الانسانية الغير متوقعة. 

 

     ــــــــ الابتزاز الجزائري:

 يقول شاهد عيان مغربي:" لقد طلبت منهم السلطات الجزائرية رفع أعلام البوليساريو والتجول بها في الشوارع على شكل مظاهرات يطالبوا فيها بانفصال الصحراء المغربية وترديد شعار "يحيى البوليساريو" لكنهم رفضوا ذلك بشكل قاطع. فيما يحكي آخرون عن ممارسات ومعاملات قاسية ولا إنسانية من جانب السلطات الجزائرية، حملت طابع الأذى النفسي والمعنوي والسب والشتم والعنف، والإمعان في الإهانة والتحقير والازدراء والاذلال وانتهاك كرامة الانسان بشكل ينم عن عداء وكراهية في ذروة الغلو والتشدد، بشكل لا نظير له.

 

كان وقع الصدمة النفسية فظيعا قاسيا عليهم، بحثا عن أي ذنب اقترفوه في حق الجزائر وشعبها، وقد كانوا بالأمس القريب رفاق سلاح في حرب التحرير 1954/1962 ضد المستعمر الفرنسي، ساهموا فيها بأرواحهم وأموالهم وكل ما يملكون من أجل استقلال الجزائر؛ دون إغفال الانخراط في العمل الميداني لبناء الجزائر المستقلة التي رأت النور كدولة ناشئة لأول مرة في تاريخها. 

 

     ـــــــــ تحركات المجتمع المدني:

لازال المغاربة ضحايا هذا القرار السيء الذكر، يستحضرون ذكرياتهم الأليمة في سرديات متعددة، لقاءات صحفية إصدارات كتب، لقاءات وندوات، تجميع وثائق وتدوين شهادات، تشكيل جمعيات، تحركات في داخل المغرب وخارجه، حرصا من جانبهم على إبقاء هذا الملف مفتوحا كجرحه، قيد المتابعة والدرس والتحيين وملاحقة الجاني والانتصار لقضيتهم، في معركة ضد النسيان والمحو والصمت.

يمكن القول إنه منذ سنة 2005، خرج الملف في دائر الصمت وأزاح أصحابه ستار الحجب، بعد أن توفرت طاقات وقيادات من ضحايا الطرد التعسفي من الجزائر وأبنائهم من ذوي الكفاءات العالية، تعبأت وأخذت على عاتقها الدفاع عن هذا الملف، وقد شكلوا جمعيات غايتها المطالبة بالاعتراف الرسمي بأحداث ووقائع هذه الجريمة ضد الإنسانية من قبل السلطات الجزائرية وبجبر ضرر جميع الضحايا وبتعويضهم معنويا وماديا. واكب هذا التحول في الاهتمام بهذه القضية، دخول وسائل الاعلام والمجتمع المدني في المغرب على الخط، حين شرع في نشر المقالات التي تعالج هذا الملف وتسليط الضوء على شهادات الضحايا ومواكبة نشاطات جمعيات المطرودين ودعمها وتغطية تحركاتها عبر ندواتها الإشعاعية.

 لا تقتصر التحركات النضالية لجمعيات الدفاع عن ضحايا التهجير القسري للمغاربة من الجزائر على المغرب، بل ذهبت إلى الأبعد من ذلك حين نقلت تحركاتها إلى الخارج في إطار التعبئة الدولية، بالقيام بحملة تحسيس المجتمع الدولي بعدالة قضيتهم، وبذل جهود جبارة في سبيل إدراج هذه القضية الإنسانية ضمن مناقشات مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة بجنيف واللجنة الاممية المعنية بحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد اسرهم.

 

     ــــــــ دينامية التجمع الدولي :CIMEA 75

وفي سياق خلق دينامية جديدة لتحريك هذا الملف والدفع به إلى الواجهة الدولية، نظم التجمع الدولي لدعم العائلات المغربية المطرودة من الجزائر سنة 1975، المعروف اختصارا ب "CIMEA 75" في خطوة تعبئة متقدمة، على إثر حلول الذكرى الخمسين لفاجعة إقدام حكام الجزائر على جريمتهم النكراء بطرد مواطنين مغاربة أبرياء، ندوة صحافية يوم فاتح أكتوبر 2025، بنادي الصحافة السويسري بمدينة جنيف/ سويسرا، حضرها نخبة من الإعلاميين مغاربة وأجانب وشخصيات وفعاليات حقوقية، لتسليط الضوء على واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في تاريخ المنطقة، وذلك من خلال تقديم تقرير غير مسبوق، أعده هذا التجمع الدولي يتضمن معطيات دقيقة موثقة تنشر لأول مرة منذ قيام النظام الجزائري بقيادة هواري بومدين ابتداء من 8 دجنبر 1975، بعملية طرد جماعي لعشرات الآلاف من المواطنين المغاربة، الذين كانوا مستقرين بطريقة شرعية، منذ عدة أجيال. ويسترجع هذا التقرير حالات الطرد الجماعي التعسفي الذي استهدف عائلات بأكملها دون تمييز بما في ذلك الأسر المختلطة، حين تم فصل الضحايا عن ذويهم. ويخلص التقرير إلى أن طرد المواطنين المغاربة من الجزائر وتجريدهم من ممتلكاتهم، يعتبران أفعالا غير مشروعة دوليا، وهو ما يُرتِّب المسؤولية الدولية المباشرة للدولة الجزائرية.

 ويواصل المكتب التنفيذي للتجمع الدولي لدعم العائلات المغربية المطرودة من الجزائر، تحركاته التضامنية، بعقد لقاء تواصلي تخليدا للذكرى 50 لهذه المأساة، وذلك يوم الأربعاء 17 دجنبر 2025، بمقر مجلس الجالية المغربية بالخارج/ الرباط.

 

     ــــــــ ما ضاع حق وراءه مُطالب:

     ويمكن إِجْمال مطالب جمعيات الدفاع عن ضحايا المسيرة الكحلة في النقاط التالية:

     1 ــــــــــ اعتراف السلطات الجزائرية رسميا بعمليات الابعاد لسنة 1975، وتحمل مسؤوليتها إزاء هذه المأساة الانسانية، وفتح مفاوضات مع الجمعيات والدولة المغربية لتلبية مطالب ضحايا هذا الطرد؛

     2 ــــــــــ استرجاع جميع الممتلكات المصادرة من طرف الدولة الجزائرية؛

     3 ــــــــــ التعويض المعنوي والمادي عن الضرر الذي لحق بالضحايا؛

     4 ــــــــــ ضمان التنقل الحر للساكنة على الحدود بين البلدين؛

     5 ــــــــــ الاعتراف بالدور الذي لعبته الجالية المغربية المقيمة بالجزائر في معركة تحرير واستقلال الجزائر ضمن التاريخ الجزائري.

 

       ــــــــ التنكر والتهرب الجزائري:

الحكومة الجزائرية من جانبها وعلى مدى 50 عاما ظلت، كعادتها، ترفض أي حديث أو اعتراف بطرد العائلات المغربية من أراضيها وتتنكر لجريمتها، في محاولة للتملص من مسؤوليتها التاريخية إزاء هذه المأساة الإنسانية الغير قابلة للنسيان، أو أي تراجع لأصحابها عن مطالبهم المشروعة المكفولة في إطار تسوية الخلافات المغربية الجزائرية المتراكمة، وأيضا بموجب القانون الدولي الإنساني، ومواثيق المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والمحاكم الدولية ولجان تقصي الحقائق الاممية، كلها وسائل دفاع معنية بالبحث في تلك الاحداث وتشخيصها وتحديد المسؤوليات وما يترتب عنها من أحكام وقرارات وعقوبات إن اقتضى الحال. فهذه الفاجعة الإنسانية لازالت حاضرة حتى اليوم، ولازالت مساءلة النظام الجزائري بدورها قائمة حتى اليوم وغدا.

لم تعد هذه المأساة ماضياً يمكن قراءته، بل صارت حاضراً يشبه الكابوس، وفاجعة حية نابضة في قلوب وعقول ووجدان ضحاياها، الذين ظلوا وعلى مدى خمسين عاما يتجرعون ألم الانتظار والإبعاد والتسويف، يترقبون موعد الاعتراف بالجريمة من قبل مُقْتَرفيها. وإن غدا لناظره قريب.

محمد بنمبارك، ديبلوماسي سابق