يشهد قطاع المعادن في المغرب تحولاً عميقاً خلال العقد الأخير، انتقالاً من قطاع تقليدي ذي طابع استخراجي إلى رافعة استراتيجية للاقتصاد الوطني وعنصراً محورياً في تموقع المملكة داخل التحولات الجيواقتصادية العالمية. هذا التطور لم يعد مرتبطاً بالفوسفات فقط—رغم ريادة المغرب العالمية وامتلاكه لحوالي 70% من الاحتياطيات العالمية—بل أصبح يشمل معادن حرجة مثل الكوبالت، النحاس، الفلور، والمواد النادرة التي أصبحت أساس الصناعات المتقدمة والطاقات النظيفة.
اليوم يساهم قطاع المعادن بما بين 6 و10% من الناتج الداخلي الخام، ويمثل نحو 30% من الصادرات الوطنية، كما يستقطب عدداً متزايداً من المستثمرين الدوليين بفضل تحديث المنظومة القانونية وتطوير البنية التحتية المينائية والطاقية. فقد أصبح المغرب ضمن الوجهات الأكثر جاذبية للاستثمار المنجمي في إفريقيا، مع وجود شركات كندية وأسترالية وأوروبية تشتغل في الاستكشاف والإنتاج وتطوير سلاسل القيمة المرتبطة بالمعادن الاستراتيجية.
هذا الصعود يعزز أيضاً النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي للمغرب داخل القارة الإفريقية. فإلى جانب صادرات الفوسفات والأسمدة عبر OCP Africa، يتوسع حضور الشركات المغربية في الخدمات الجيولوجية والهندسية والمشاريع الصناعية، ما يجعل المملكة مرشحة لتصبح منصة إقليمية لمعالجة المعادن الحرجة وتوجيهها نحو الأسواق العالمية، خصوصاً أوروبا والولايات المتحدة التي تبحث عن مورّدين موثوقين في ظل المنافسة مع الصين.
غير أن هذا الاهتمام الدولي بالثروات المعدنية المغربية يحمل معه، بطبيعة الأمور، مطامع وتنافساً بين القوى الكبرى. فالمغرب جزء من سباق عالمي لتأمين سلاسل التوريد في المعادن الحيوية للانتقال الطاقي. وهنا تكمن المعادلة الدقيقة: الانفتاح على الاستثمار الخارجي ضروري لجلب التكنولوجيا وتمويل المشاريع الكبرى، لكنه يجب أن يكون محكوماً بشروط تعزز السيادة الاقتصادية: نسبة مكوّن محلي واضحة، نقل التكنولوجيا، احترام المعايير البيئية، والأهم خلق قيمة مضافة داخلية بدل الاكتفاء بتصدير المواد الخام.
في هذا الإطار، يبرز أيضاً نقاش استراتيجي حول دور الطاقة النووية في النمو الاقتصادي المغربي. فمع الطموحات الصناعية المتزايدة، ومشاريع الهيدروجين الأخضر، وتفاقم الضغط على الموارد المائية، يحتاج المغرب إلى مصدر طاقة مستقر ومنخفض الكربون يكمل الطاقات المتجددة ذات الطابع المتقطع. امتلاك المغرب لمفاعل بحثي في “معمورة”، وخبرته الطويلة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يجعلان خيار النووي المدني—خاصة عبر المفاعلات الصغيرة المعيارية SMR—قابلاً للنقاش بجدية خلال المرحلة 2030–2040. كما أن احتواء بعض أنواع الفوسفات المغربي على اليورانيوم يعطي بُعداً إضافياً لمسألة الاستقلال الطاقي.
من جهة أخرى، عرفت السنوات الأخيرة ظهور مشاريع أمريكية كبيرة في مجالات المعادن والتقنيات النظيفة بالمغرب، أبرزها مشروع إنتاج البوليسيليكون في طانطان بتمويل من مؤسسة DFC الأمريكية، وهو استثمار يربط المغرب مباشرة بسلاسل القيمة العالمية للرقائق الشمسية والصناعات الإلكترونية. أما الاستثمارات الإسرائيلية، فهي وإن بقيت محدودة مقارنة بتوقعات السنوات الأولى من استئناف العلاقات، إلا أنها تتجه نحو الطاقات المتجددة والفلاحة المتقدمة والصناعات المرتبطة بالماء، أكثر مما تتجه إلى استخراج المعادن.
كل هذه التحولات تتقاطع مع التوجه الأمريكي الجديد الداعم بوضوح للمغرب، سواء سياسياً أو اقتصادياً. فإعادة التأكيد على دعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء ليست خطوة رمزية فقط، بل إشارة إلى رغبة واشنطن في بناء شراكة استراتيجية طويلة المدى تشمل الأمن، الطاقة، المعادن، والصناعات النظيفة. وفي سياق إدارة أمريكية تضع “المعادن الحرجة” في صلب تنافسها مع الصين، يصبح المغرب فاعلاً لا غنى عنه في حسابات واشنطن.
في المحصلة، يقف المغرب اليوم في نقطة تحول حقيقية:
إما أن يتحول إلى قوة صناعية-منجمية إقليمية، وإما أن يظل مجرد مصدر للمواد الخام في سباق عالمي لا يرحم.
الفرصة متاحة، والإرادة السياسية واضحة، والرهان الآن هو بناء شراكات ذكية تضمن للمغرب مكانة مستدامة في اقتصاد المعادن والطاقات المستقبلية.
