د. بوشيخي خبير في قضايا الإسلام السياسي والحقل الديني وكتاب "تفكيك السلفية: تحولاتها وتحوراتها من مجالس العلم إلى جبهات القتال" في خطوة وصفها محللون بالتحوّل الجذري، قررت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصنيف بعض أفرع جماعة الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، في خطوة تتناقض مع المواقف السابقة لإدارة أوباما وحلفائها الأوروبيين، الذين كانوا يدعمون الجماعة كطرف سياسي معتدل خلال موجة الربيع العربي. هذا القرار يفتح نقاشاً واسعاً حول أسباب التحوّل الأمريكي، وانعكاساته على الحركات الإسلامية في العالم العربي، وخيارات الإخوان في مواجهة هذه المرحلة.
لفهم خلفيات هذا القرار ودلالاته الجيوسياسية وتأثيراته المحتملة على التنظيم نفسه وعلى موازين القوى في العالم العربي، تحاور "أنفاس بريس" الدكتور محمد بوشيخي، الباحث المتخصص في قضايا الإسلام السياسي والحقل الديني، وصاحب كتاب "تفكيك السلفية: تحولاتها وتحوراتها من مجالس العلم إلى جبهات القتال" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية.
في هذا الحوار، يقدم بوشيخي قراءة معمّقة في السياق الأمريكي الجديد، دوافع القرار، انعكاساته على حركات الإسلام السياسي، وخيارات الإخوان في مواجهة مرحلة قد تكون الأكثر تعقيداً في تاريخهم المعاصر.
اليوم، يظهر أنّ واشنطن تعيد ترتيب أولوياتها ورؤيتها تجاه الإسلام السياسي، بل ربما تعتبر أن "ورقة الإخوان" استنفدت وظيفتها أو انتهت صلاحيتها، ما يدفعها للبحث عن بدائل جديدة في المنطقة. وهذا التحوّل يطرح سؤالاً أكبر : ما الذي تغيّر في الحسابات الأمريكية حتى تنتقل من مساندة جماعة الإخوان المسلمين إلى تصنيفها تنظيماً إرهابياً؟ وهل يرتبط ذلك بتحوّلات إقليمية أو بحسابات استراتيجية جديدة؟
قرار الرئيس الأمريكي بتصنيف بعض أفرع "جماعة الإخوان المسلمين" ضمن لائحة الإرهاب الأمريكية يستهدف أساسًا النشاط الميداني لهذه التنظيمات، من خلال منع تمويلها ودعمها من طرف المؤسسات والأفراد بالولايات المتحدة، وبالتالي لا يمكن الحديث من هذه الزاوية عن نهاية "الإسلام السياسي" ولا حتى القضاء على النشاط الإخواني في الولايات المتحدة. وذلك بالنظر إلى مايلي:
1- أن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب يقضي بتصنيف "التنظيمات" إرهابية وليس مسؤوليها. وهذا يتيح لهؤلاء إعادة بناء وجودهم المؤسساتي تحت عناوين جديدة وتكييف أنشطتهم بما لا يتعارض مع التشريعات الأمريكية.
2- أن الأمر التنفيذي لن يقضي كليًا على مصادر التمويل لهذه التنظيمات التي تستفيد من نشاط حضور إسلامي واسع ونشيط في المجتمع الأمريكي عبر أموال الزكاة والاشتراكات والتبرعات الخاصة والاوقاف الشرعية... والتي توفر لها الاستقلالية عن الجهات الرسمية ويتم نقلها عبر بدائل يوفرها النظام المالي الدولي وهي غير قابلة للرقابة دائمًا.
3- أن قرارات التصنيف لن تؤثر على المرجعية الفكرية للتنظيمات المستهدفة، وهذا يعني أن منظومة الفكر الإخواني سوف تبقى متوهجة تحت الرماد، وقابلة للانبعاث مادامت تعبر عن قناعات أصحابها بأنها قادرة على تلبية الحاجات الروحية والحضارية ليس للمسلمين فحسب إنما لغيرهم أيضًا. وهنا يجب الإشارة إلى القراءات الجديدة التي طالت جوانب من الفكر الإخواني حول "حوار الحضارات" و"فقه الأقليات" والمفاهيم الشرعية المتعلقة بالتمكين والولاء والبراء وحكم الديار وغيرها من المواقف التي باتت تضمر إعداد المسلمين ذهنيا ووجدانيا للتفاعل الحي مع المجتمعات الغربية من موقع الفاعل والمؤثر وليس من موقع المتلقي.
4- قرار التصنيف، حتى في حال إقراره، سيبقى حسب التشريعات الأمريكية قابلاً للمراجعة بشكل دوري؛ الشيء الذي يتيح للقائمين على المنظمات المستهدفة، في حال استنفاذ كل المنافذ القضائية، تجديد تظلماتها وشرح برامجها؛ وهذا قد يجد تفاعلاً لدى الإدارات اللاحقة في ظل مستلزمات التحولات الجيوسياسية وما تفرضه من الحاجة إلى أدوات ضغط تجاه دول بعينها بما يعزز المصالح الأمريكية.
"كيف تفسرون القرار الأخير لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، خصوصًا في ظل الخطوات السابقة لبعض حكام الولايات الأمريكية الذين بادروا إلى اتخاذ قرارات مماثلة بشكل مستقل؟"
تجري عملية التصنيف ضمن قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها دولة فدرالية، وفق مستويين متوازيين؛ اتحادي ومحلي:
المستوى الاتحادي: حيث يتولى الرئيس الأمريكي شخصيًا إطلاق الإجراءات الرسمية لتصنيف "الكيان المستهدف"، داخل البلاد أو خارجها، بمقتضى أمر تتفيدي يتضمن دواعي التصنيف، وهو ما قام به ترامب يوم 24 نوفمبر الماضي بشأن فروع الاخوان خاصة في مصر ولبنان والأردن، ليقوم في ضوء ذلك وزيري الخارجية والخزانة بتقديم تقرير مشترك، يتناول مدى تطابق التهديدات المحتملة للكيان المستهدف مع معايير التصنيف المقررة في التشريعات الأمريكية، ليتلوها مرحلة ترجمة قرار التصنيف على أرض الواقع وفي كل ولايات البلاد من تجميد للأصول وإغلاق المقرات وكل ما من شأنه إنهاء التهديد المحتمل.
المستوى المحلي: حيث يتولى حاكم الولاية إصدار الأمر بالتصنيف في إطار صلاحياته المحدودة بحدود ولايته وبمقتضى تشريعات مكافحة الإرهاب النافذة تحت سلطته مع بيان أوجه المخاطر التي يشكلها "الكيان المستهدف" وتوجيهات بخصوص احتوائه، دون التأثير على وضع "لكيان" في الإطار الاتحادي ولا على شرعيته في الولايات الأخرى؛ وهنا يندرج قرار حاكم تكساس في الشهر الماضي وحاكم فلوريدا مؤخرًا بتصنيف "الاخوان" و"كير" منظمتين إرهابيتين أجنبيتين. لكن هذه المبادرات على المستوى المحلي غالبا ما تعزز النقاش في الولايات الأخرى بشأن اتخاذ إجراءات مماثلة، وبالتالي تطوير نهج موحد في التعامل مع التهديدات المحتملة وبما لا يعارض مع القوانين الاتحادية.
ورغم تباين المساطر الإدارية في عمليات التصنيف والحيثيات بين المستويين الاتحادي والمحلي، فإن الدوافع المعلنة قد تكون نفسها أو متشابهة، ويبقى القاسم المشترك في الغالب هو الانتماء الإيديولوجي. وهذا تماما ما يجمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحاكمي تكساس وفلوريدا، بانخراطهما في صفوف الحزب الجمهوري وتبني رؤية للهوية الأمريكية متماهية مع أفكار اليمين المتطرف؛ الشيء الذي يعزز العداء لكل "دخيل" ثقافي خاصة إن صدر من الدوائر الإسلامية.
ما الذي يفسّر التحوّل الأمريكي المفاجئ تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وانتقال واشنطن من دعمها في عهد إدارة أوباما وبريطانيا، خاصة خلال موجة الربيع العربي، إلى تصنيفها تنظيماً إرهابياً في عهد ترامب؟"
يعود هذا الانقلاب في الرؤية الأمريكية تجاه جماعة الإخوان المسلمين إلى مجموعة عوامل نوجز أهمها على النحو التالي:
- حكم الجمهوريين في شخص ترامب وإدارته للولايات المتحدة الأمريكية؛ وهي إدارة يمينية متشددة تتبنى خيارات قومية بأساليب شعبوية أحيانًا؛ ومن هنا معارضتها لسياسات الحزب الجمهوري التقليدية التي كانت تراهن على ديمقراطية "الشرق الأوسط الكبير"، والتركيز في المقابل على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وما تقتضيه على المستوى الجيوسياسي من دعم إسرائيل وإضعاف خصومها الذين منهم وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين.
- استثمار التقارير الاستخباراتية والإعلامية في عدد من الدول الغربية التي تتحدث عن "اختراقات" للجماعة في مؤسساتها ومجتمعها المدني، وسعيها إلى إقامة مجتمع "إسلامي" طائفي وموازي في المجتمعات الغربية.
- الانتشار الإسلامي الواسع بالولايات المتحدة، في الفضاءات الاجتماعية والمؤسساتية، بالتوازي مع استمرار مشاعر الخوف لدى الأمريكيين من تكرار مأساة 11 شتنبر، في ظل التهديدات الأخيرة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وذلك بالتركيز على المرجعية الإسلامية كقاسم مشترك بين جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الجهادية مثل القاعدة وداعش وتعارضها مع قيم الحضارة الامريكية، بصفتها غربية وذات جذور مسيحية. وبالتالي تجاوز مقاربة الإدارات السابقة في التعامل مع التنظيمات الإخوانية باعتبارها واجهة معتدلة وبرغماتية للإسلام السياسي.
- يحتل التطبيع خيارًا استراتيجيا لدى إدارة ترامب من أجل إدماج إسرائيل في الفضاء الإقليمي، وهذا لن يتحقق بوجود قوة اجتماعية تمتلك أدوات التأطير وصياغة جزء مهم من الرأي العام الوطني في دول المنطقة؛ وبالتالي يندرج استهداف جماعة الاخوان المسلمين ضمن رؤية أمريكية لمستقبل الشرق الأوسط الجديد يعزز جهود تحجيم إيران وأذرعها.
كيف سينعكس هذا القرار الأمريكي، ومعه موجة التصنيفات المنتظرة من أوروبا وكيانات دولية أخرى، على موازين القوى داخل الحركات الإسلامية السياسية في المنطقة العربية؟
التبعات المباشر للقرار الأمريكي سوف تتمثل في "التضييق" على نطاق تحرك الكيانات المستهدفة على المستوى الداخلي وتأثر شبكة الدعم المالي واللوجيستي التي يعتقد أنها توفرها لتنظيمات أخرى في دول الشرق الأوسط. وهذا سيفتح آفاق جديدة للتعاون الأمني بين عدد من دول المنطقة والولايات المتحدة؛ خاصة أن أربعة دول منها: هي مصر والامارات والسعودية والبحرين كانت سباقة لتصنيف الجماعة ضمن قوائمها للإرهاب. وفي المقابل سوف تحد من دعم دول مثل تركيا وقطر، فضلاً عن إيران، للتنظيمات المستهدفة،
كما ستكون للقرار تبعات أخرى على المستوى الخارجي ستتمثل في التجاوب مع الخطوات الأمريكية من طرف عدد من دول العالم، وحتى استباقها على شاكلة الإيكوادور مؤخرًا. وكذلك تأجيج النقاش حول الوضع القانوني للجماعة في دول أوروبا الغربية أساسًا بالنظر لارتباط هذه الدول في التصورات الجيوسياسية بالولايات المتحدة وتزايد المد اليميني المتطرف بمجتمعاتها خاصة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لذلك نجد تعامل هذه الدول مع تنظيمات الإسلام السياسي لا يخرج عن نطاق الرؤية الأمريكية، ومن هنا تطابق مواقفها مع موقف الإدارة الأمريكية حيال حركة طالبان في أفغانستان وأحمد الشرع في سوريا.
ما هي برأيكم خيارات الإخوان المسلمين في المرحلة المقبلة بعد إدراجهم ضمن لوائح التنظيمات الإرهابية، وكيف يمكن أن يتكيف التنظيم مع هذا الواقع الجديد؟
سوف تبقى لائحة التنظيمات المستهدفة، سواء كانت إخوانية أو مقربة من الجماعة، مفتوحة، في الولايات المتحدة وغيرها، لضم أسماء جديدة بحسب مقتضيات المرحلة. وهذا الموقف سوف تبادر الجماعة بالتعامل معه عبر مسارين؛ الأول قضائي والثاني تنظيمي.
المسار القضائي، من خلال التماس حكم قضائي يلغي قرار التصنيف باعتباره مناقضًا لحرية التعبير ومعيق لحرية التنظيم في المجتمع المدني ومشجع لـ"الاسلاموفوبيا"، وقد تم فعلاً التفكير في مباشرة هذا المسار في فلوريدا من خلال إعلان منظمة "كير" اعتزامها مقاضاة حاكم الولاية بسبب "عدم دستورية" قراره و"التشهير" في حق المنظمة. وفي هذا السياق سوف توظف "التنظيمات المستهدفة" علاقاتها بالهيئات الحقوقية والشخصيات المثقفة والإعلام التابع لها والمتعاطف معها أو المتفهم لها، فضلاً عن الأصوات المعارضة للسياسات الأمريكية، من أجل الدفاع عن سلمية برامجها وشفافية أنشطتها...
المسار التنظيمي، ويقصد به إعادة تكييف أولويات التنظيمات الإخوانية وحضورها الاجتماعي مع مستجدات قرار التصنيف وتداعياته؛ وذلك تفاديًا لإخضاع المزيد منها لخطر التصنيف وحرصًا على عدم تعميقه واتساعه ليشمل "تجريم" الجهات المسيرة بمقتضى قوانين مكافحة الإرهاب. وهذا يوجب إقبار الحديث عن "التنظيم الدولي" للإخوان وفك الارتباط مع التنظيمات عبر الوطنية والحد من تدخلات التنظيمات الإسلامية، في قضايا الشأن العام بالمجتمعات الغربية مثل قضايا الحجاب والتعليم الديني وتنظيم المساجد والأئمة... وغيرها. وما يحفز على هذا هذا السيناريو هو الوضع التنظيمي الحالي لجماعة الإخوان المسلمين الأم المنقسم على ثلاث جبهات: جبهة لندن وجبهة إسطنبول وجبهة الكماليون. فباستثناء الجبهة الأخيرة، المحدودة القوة والتأثير والتي تتبنى الصدام المسلح، فإن الجبهتين الأولى والثانية، والهيئات المرتبطة بهما، تبدوان أكثر استعدادًا للتكيف التنظيمي الاستباقي مع قرارات التصنيف.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى إمكانية تحول الهيئات "المهددة" من فكرة "التنظيم" إلى فكرة "التيار" أي تتحول إلى العمل المدني والدعوي، وهذه الإمكانية التي تنسجم مع "فقه أولويات العمل الإسلامي"، كما تشهد عليها عدد من الأدبيات الحركية، طفت على سطح النقاش في الدوائر الإخوانية بعد دعوة موفق زيدان، المستشار الإعلامي للرئيس السوري أحمد الشرع، في غشت الماضي، إخوان بلاده إلى حل تنظيمهم وهذا ما حدث فعليا في قطر منذ 1999.
أما فكرة العودة إلى العمل "السري" فتبقى مستبعدة كليًا لكونها غير عملية وأثبتت التجارب فشلها وخصوصًا صعوبة تبنيها في المجتمعات الغربية، كما أنها تنطوي على المجازفة بوضع التنظيمات الإخوانية في نفس خانة التنظيمات الجهادية.