وقد جمع اللقاء نخبة من الأكاديميين والباحثين والمهتمين بقضايا الجبل، الذين أسهموا في نقاش علمي حول موقع الجبل في السياسات العمومية والحاجة إلى رؤية مالية أكثر إنصافا.
وقد تميزت الندوة بنقاش تفاعلي عكس الاهتمام المتزايد بضرورة إدماج خصوصيات الجبل في التخطيط التنموي.
وشهدت الندوة تقديم قراءة تحليلية في موقع الجبل داخل قانون مالية 2026 من طرف عبدالرزاق الهيري، أستاذ الاقتصاد بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس. تنشر "أنفاس بريس" مضامينها:
المقدمة
يُعد مشروع قانون المالية رقم 50.25 لسنة 2026 (PLF 2026) وثيقة استراتيجية ترجمة للتوجيهات الملكية السامية، خاصة تلك المتعلقة ببناء "المغرب الصاعد"، حيث يجعل العدالة المجالية أحد أعمدة الميزانية العامة. في سياق الجبال المغربية – التي تشكل نحو 30% من المساحة الترابية وتضم جهات مثل درعة تافيلالت، بني ملال خنيفرة، والريف – يأتي هذا المشروع ليواجه التحديات التاريخية مثل الهشاشة الاقتصادية، نقص البنى التحتية، والفوارق التنموية.
يهدف PLF 2026 إلى تقليص هذه الفجوات من خلال تخصيصات موجهة وآليات تمييز إيجابي، مع التركيز على التنمية المستدامة والاندماج الترابي. هذه القراءة تحلل مدى تجاوبه مع مطلب العدالة المجالية، مستندة إلى الوثيقة الرسمية للمشروع وتقارير البرلمان، مع اقتراحات لتعزيز الفعالية.
دفعة استراتيجية من أجل العدالة الترابية
لقد أعطت التوجيهات السامية الملكية دفعة استراتيجية أساسية لإعادة توجيه سياسة التنمية الترابية في المغرب، داعية إلى «انتفاضة حقيقية في رفع المستوى الشامل للجماعات الترابية ولجميع الجهات وفي تدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية».
وفي قلب هذه الرؤية اهتمام خاص بالمناطق الجبلية التي، رغم أنها تغطي 30% من التراب الوطني، واجهت لفترة طويلة تحديات هيكلية. الهدف هو تجاوز المقاربات الكلاسيكية للتنمية الاجتماعية لاعتماد رؤية «تنمية ترابية متكاملة» تضمن أن تكون ثمار التقدم من نصيب جميع المواطنين دون تمييز أو إقصاء.
هذه الدفعة الاستراتيجية الجديدة تهدف إلى تحويل إمكانيات الجهات إلى رافعات لنمو مستدام وإدماج اجتماعي. سوف نحاول ابراز الإطار الاستراتيجي والبرامج العملية وآليات التمويل والمجالات ذات الأولوية التي تشكل هذه السياسة الطموحة، بدءًا من التوجيهات الملكية التي تشكل أساسها.
الإطار الاستراتيجي الملكي: الرؤية والتوجيهات الأساسية
إن السياسة لفائدة المناطق الجبلية متجذرة مباشرة في رؤية ملكية واضحة ومتكررة، تهدف إلى تصحيح الفوارق المجالية وتعزيز عدالة اجتماعية فعلية. هذه الرؤية تشكل الإطار المرجعي لإعداد مشروع قانون المالية 2026 وتوجه كل التدخلات العمومية. وتتجلى من خلال توجيهات دقيقة تشكل جيلاً جديدًا من برامج التنمية الترابية.
الدعوة إلى تنمية ترابية متكاملة (خطاب العرش – 29 يوليوز 2025)
في خطابه بمناسبة عيد العرش، حدد جلالة الملك أربع أولويات أساسية للجيل الجديد من برامج التنمية الترابية، مثبتًا قطيعة عقائدية مع المقاربات القطاعية السابقة ومشددًا على التأثير المباشر على المواطن:
تشجيع الشغل: يهدف هذا المحور إلى استثمار الإمكانيات الاقتصادية الجهوية وخلق مناخ ملائم للمقاولاتية والاستثمار المحلي لخلق فرص شغل مستدامة للشباب.
تعزيز الخدمات الاجتماعية الأساسية: اهتمام خاص بالتعليم والصحة كركيزتين أساسيتين لحفظ كرامة المواطنين وإرساء عدالة مجالية حقيقية.
التدبير المستدام للموارد المائية: أمام تفاقم الإجهاد المائي، رفع نموذج تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية إلى مرتبة أولوية وطنية لضمان الأمن المائي للأقاليم.
- الرفع من المستوى الترابي المتكامل: إطلاق المشاريع الهيكلية يجب أن يكون في تناغم تام مع المشاريع الوطنية الكبرى، ضامنًا التناسق والتكامل بين المستويات المحلية والوطنية للتنمية.
الأولوية الصريحة للمناطق الجبلية والواحاتية (خطاب افتتاح الدورة التشريعية – 10 أكتوبر 2025)
مؤكدًا هذا التوجه، دعا الخطاب الملكي لافتتاح الدورة التشريعية صراحة إلى «إيلاء اهتمام خاص بالجهات التي تعاني فقرًا مدقعًا، خاصة المناطق الجبلية والواحات». هذا التوجيه يبرز ضرورة إعادة النظر بعمق في تنمية هذه الجهات. وأصبح من الضروري تزويدها بـ«سياسة عمومية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها وإمكانياتها العديدة». هذه الأولوية ليست مجرد تعديل تقني، بل هي «توجيه استراتيجي» يجعل العدالة الاجتماعية وتقليص التفاوتات الترابية في صلب مشروع تنمية المغرب الصاعد والمتضامن. هذه الرؤية الملكية تُترجم اليوم إلى برامج عملية ملموسة في إطار قانون المالية2026 .
التفعيل من خلال برامج التنمية الترابية المتكاملة (PDTI)
من وجهة نظر هندسة السياسات العمومية، فإن مشروع قانون المالية 2026 لا يكتفي بتمويل المشاريع؛ بل يؤسس للرؤية الملكية بإحداث أداة عمل مخصصة: الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المتكاملة, هذه البرامج مصممة على القطيعة مع المقاربات القطاعية المتجزئة ودعم تأثير الاستثمارات العمومية على حياة المواطن اليومية.
تحليل المقاربة الجديدة
إن الانتقال من منطق «ارساء البنيات التحتية» إلى منطق «تنمية متكاملة للجهات» يرسخ تغييرًا جذريًا في الباراديغم.
تتميز هذه المقاربة الجديدة بعدة خصائص ابتكارية:
تخطيط تصاعدي: تُصمم البرامج انطلاقًا من تشخيصات ميدانية دقيقة وتشاور واسع مع الفاعلين المحليين للاستجابة للحاجيات الحقيقية وخصوصيات كل جهة.
حكامة شمولية: تنفيذها يعتمد على حكامة مرنة وشفافة موجهة نحو النتائج وتشمل كل الأطراف من المواطن إلى المؤسسات الوطنية.
التركيز على التأثير: التركيز على مشاريع ذات تأثير اجتماعي واقتصادي قوي، خاصة في خلق مناصب الشغل، تحسين الخدمات الاجتماعية الأساسية، واستثمار الإمكانيات المحلية.
البرنامج ذو الأولوية 2026: تدخل ذو تأثير سريع
استجابة مباشرة للتوجيه الملكي بتاريخ 10 أكتوبر 2025 الداعي إلى برامج «تتسم بسرعة أكبر وتأثير أقوى»، تم إحداث برنامج مزود بغلاف مالي تقديري قدره 20 مليار درهم.
يستهدف هذا البرنامج التدخلات الأكثر إلحاحًا. هدفه الرئيسي نشر اطلاق برامج ذات تأثير اجتماعي قوي في المناطق القروية المتضررة، بما في ذلك المناطق الجبلية والواحاتية.
ستركز التدخلات على تحسين الخدمات الأساسية (تعليم، صحة، ماء)، تقليص الفوارق الترابية عبر فك العزلة ورفع مستوى البنيات التحتية الأساسية، وتحفيز الشغل المحلي عبر أوراش ذات كثافة يدوية عالية ودعم المشاريع الصغرى.
تجسيد هذه الطموحات يعتمد على آليات تمويل مخصصة ومتطورة.
آليات التمويل والميزانيات المرصودة
إن استدامة أي طموح استراتيجي تكمن في قوة آليات تمويله. الهندسة الميزانياتية المقترحة لسنة 2026 تكشف عن مقاربة مزدوجة: الاستفادة من مكتسبات البرامج القائمة وإعادة توجيه استراتيجي للأدوات المالية لخدمة المنطق الجديد للتنمية المتكاملة.
حصيلة برنامج تقليص الفوارق الترابية والاجتماعية
أُطلق سنة 2017، وشكّل برنامجًا أساسيًا لفك العزلة وتجهيز المناطق القروية. منذ انطلاقه تم تعبئة أكثر من 46.49 مليار درهم، مما يشهد على حجم الجهد المبذول. أبرز الإنجازات توضح تأثيره على تحسين ظروف عيش السكان.
.jpg)
التطور الاستراتيجي: نحو صندوق التنمية الترابية المتكاملة
يقترح مشروع قانون المالية 2026 تطورًا كبيرًا بتغيير تسمية «صندوق تنمية القرى والمناطق الجبلية» ليصبح «صندوق التنمية الترابية المتكاملة».
هذا التغيير ليس مجرد دلالي؛ بل يوسع مجال تدخل الصندوق لتمويل الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المتكاملة
هذا الإصلاح يؤكد صراحة أولوية المناطق الجبلية مع إدراج تنميتها في مقاربة ترابية أوسع وأكثر تماسكًا. إعادة تسمية صندوق تنمية القرى والمناطق الجبلية إلى «صندوق التنمية الترابية المتكاملة» ليست مجرد تعديل إداري؛ بل تمثل التوافق المباشر للأداة المالية الرئيسية مع تغيير الباراديغم الذي دعت إليه التوجيهات السامية الملكية، منتقلة من منطق التجهيز إلى منطق التأثير الترابي المتكامل.
الدعم المالي المحدد والتعاون الدولي
إلى جانب التمويلات الوطنية، تستفيد تنمية المناطق الجبلية من دعم الشركاء الدوليين الذين يدعمون برامج تنمية قروية متكاملة مستهدفة:
منطقة جبلية في الجهة الشرقية: مشروع بتمويل 87 مليون أورو لتحسين ظروف العيش باستدامة واستثمار السلاسل الزراعية المحلية.
برنامج ثانٍ للتنمية القروية الشاملة بتمويل 57.05 مليون دولار لتعزيز الإدماج الاقتصادي والبنيات التحتية القروية.
لميزانيات المرصودة لتنمية المناطق القروية والجبلية في مشروع قانون المالية 2026 بالمغرب
مشروع قانون المالية يمثل خطوة حاسمة في تنفيذ التوجيهات السامية الملكية للعدالة الترابية. يُولي أولوية استراتيجية للمناطق القروية والجبلية، التي تغطي نحو 30% من التراب الوطني وتضم نحو 40% من المغاربة.
هذه المناطق، التي تعاني غالبًا من فوارق في البنيات التحتية والشغل والخدمات الأساسية، تستفيد من غلاف ميزانياتي معزز، متوافق مع رؤية "المغرب الصاعد" الشامل والمستدام. بناءً
البرامج الرئيسية والتخصيصات الميزانياتية
يؤسس مشروع قانون المالية 2026 لـ"جيل جديد من برامج التنمية الترابية المتكامل" مع برنامج أولوية بـ20 ملياردرهم لتدخلات عاجلة ذات تأثير اجتماعي قوي (تعليم، صحة، ماء، فك العزلة). هذه الأموال تستهدف المناطق القروية المتضررة والمحيطة بالمدن والجبلية والواحاتية، مع تنفيذ سريع عبر عقود أهداف.

نحو تنمية شاملة ومستدامة للأقاليم الجبلية
تؤكد السياسة لفائدة المناطق الجبلية في المغرب نفسها كأولوية استراتيجية من الدرجة الأولى، محمولة برؤية ملكية واضحة ومترجمة ببرامج طموحة وميزانيات كبيرة في إطار مشروع قانون المالية 2026.
إن الانتقال إلى برامج التنمية الترابية المتكاملة مدعومًا بإعادة هيكلة الصندوق التمويلي الرئيسي، يمثل تغييرًا في الباراديغم. يهدف إلى ضمان العدالة الترابية والعدالة الاجتماعية وخلق قيمة مستدامة لسكان المناطق الجبلية باستثمار خصوصياتهم وإمكانياتهم بوضع المواطن والشغل والخدمات الأساسية في قلب العمل العمومي، لا تكتفي هذه السياسة بتدارك التأخرات، بل تسعى لبناء مستقبل مرن ومزدهر لهذه الأقاليم. نجاح هذه المقاربة سيكون علامة حاسمة لتقدم المغرب الناهض والمتضامن.