سعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها إلى تسويق نفسها نموذجا ناجحا للمزاوجة بين الالتزام بالتعاليم الإسلامية وبين احترام مبادئ الانتخابات والاستشارة الشعبية، التي أولاها الدستور الإيراني أهمية خاصة عندما نص في مادته السادسة على أن إدارة شؤون البلاد تتم بالاعتماد على رأي الأمة متجليا في انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) وأعضاء سائر مجالس الشورى الأخرى ونظائرها مباشرة من الشعب، وفي الاستفتاء العام في الحالات التي يحددها الدستور.
وانطلاقا من الآيات القرآنية الكريمة "وأمرهم شورى بينهم" و"شاورهم في الأمر" تؤكد المادة السابعة من الدستور الإيراني على أن مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) ومجالس الشورى المحلية تعتبر من مصادر اتخاذ القرار وإدارة شؤون البلاد؛ الأمر الذي يشيع الانطباع بأننا أمام نظام ديمقراطي حقيقي، خاصة وأن مواد دستورية عديدة تشير إلى دور الشعب في الانتخابات، وأن الممارسة الانتخابية أصبحت أمرا معتادا في الحياة السياسية للبلاد يتم من خلالها تداول الإدارة والشؤون العامة بين رؤساء للجمهورية يتم تسويقهم كمعبرين عن تيارات متعددة في الساحة السياسية تتأرجح بين الإصلاحيين والمحافظين ضمن المنظومة الإسلامية، ولا يمكن لأحدهم أن يظل في مكانه أكثر من دورتين، مدة الواحدة منهما أربع سنوات.
إن هذه الحيوية السياسية تعكس وجود تعددية فكرية وسياسية وطبقية في المجتمع الإيراني وعت المؤسسة الدينية ممثلة بالمرجع الأعلى آية الله العظمى الإمام الخميني مبكرا أنه لا يمكن القفز عليها، خاصة وأنها استطاعت استغلال غضبها إبان الثورة ضد نظام الشاه، ومن المصلحة العليا للمرجعية أن تستمر عملية التعبئة الشعبية بعيدا عن التفكير في القضايا الداخلية، وما حصل من اختطاف للثورة الشعبية الإيرانية من قبل رجال الدين. اختطاف تجسد في استبعاد أول رئيس للحكومة في عهد الثورة مهدي بزركان رغم دوره البارز ودور تياره السياسي في التحضير للثورة، ثم في إقصاء أول رئيس للجمهورية الحسن بني صدر الذي كان يحظى بدعم الإمام الخميني ورضاه. ولمواصلة التعبئة الشعبية لم تجد المرجعية الدينية العليا أفضل من تبني سياسة خارجية هجومية من شأنها إثارة قوى إقليمية وقوى دولية غربية وأمريكية بالخصوص ترفض النفس التوسعي لتلك السياسة الخارجية الإيرانية تحت أي رداء كانت. ولن تكون تلك الاستثارة فعالة إلا إذا تمت من خلال الإزعاج الإقليمي لحلفاء هذه القوى في المنطقة كل من خلال القضايا والمواضيع التي تستفزه، وذلك كما يلي:
- بالنسبة لدول الخليج العربية الغنية بتروليا، القليلة العدد سكانيا والحريصة على عدم المساس بوضعها الداخلي وبالوضع الراهن في المنطقة من خلال استدامة حالة التوتر والتأهب عبر استنهاض قوى شيعية في بعضها ورفض مناقشة الخلافات الترابية والحدودية مع البعض الآخر.
- بالنسبة لإسرائيل بالدعوات المتكررة لإزالتها باعتبار وجودها نتيجة ، كما كان يردد الإمام الخميني، لتآمر القوى الاستعمارية، وأن الصراع معها صراع عقائدي وحضاري، ولا بد من استنفارها على الدوام في شمالها من خلال حزب الله اللبناني، وفي الجنوب عبر دعم المقاومة الإسلامية في غزة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، اللتين تم دعمهما لتقزيم حضور منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة حركة فتح في القطاع.
- بالنسبة لبعض الدول العربية التي تشكل تحديا إقليميا وفكريا ودينيا لإيران من خلال المزايدة عليها لفظيا في القضية الفلسطينية التي سعى الإمام الخميني دائما إلى أسلمة الصراع حولها، مستغلا في حالة مصر خروج هذه الأخيرة من الصراع العربي الإسرائيلي بعد اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1979، ومزايدا على بلد كالمغرب رئيس لجنة القدس المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي بالسعي لإفراغ تلك اللجنة من أساسها، وذلك عبر إعلان يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان يوما عالميا للقدس إدراكا منه لأهمية المدينة المقدسة في تعبئة الرأي العام الداخلي والعربي والإسلامي حول إمامته التي كان يطمح لمدها إسلاميا قدر المستطاع. وقد كان يعتقد أن أكثر ما يبز الإمامة التي يمثلها في الشرعية الدينية هو إمارة المؤمنين كما هي معقودة لملك المغرب، الذي يتفوق عليه أيضا في النسب إلى الدوحة النبوية الشريفة.
وبديهي في مواصلة إيران لسياسة مستفزة كهذه أن تستنفر القوى الدولية الغربية والأمريكية بصفة خاصة ذات المصالح الكبرى والحيوية في المنطقة كل طاقاتها للمواجهة إذا اقتضت الضرورة أو لاحتواء الطموحات والأطماع الإيرانية عبر الضغط على طهران بشتى الوسائل. هذا الضغط هو المطلوب لدى المرجعية الدينية العليا لأنه يساعد في حرف أنظار الشعب الإيراني عن سطوة رجال الدين بل ويجيشه خلفهم، خاصة إذا ما اقترن الخطاب بالنزعة القومية الفارسية، التي تم حشد تعبئتها بتفعيل البرنامج النووي وتسويقه كأمر مصيري في حياة الشعب الإيراني. فالنظام الإسلامي الإيراني كما يقولRay Takeyhقادر على اختراع أمريكا جديدة إذا ما اختفت الحالية من على الخريطة حتى لا يستعجل سقوطه إذا عاش شهر عسل واحد في علاقاته مع الخارج.
إن بإسباغ نعوت ذات حمولة دينية تدغدغ العواطف على هذا العدو الخارجي المختلق من قبيل "الاستكبار العالمي" و"الشيطان الأكبر" تمكنت المؤسسة الدينية الإيرانية من تمرير دستور أرادت منه أن يكون وسيلة لإعداد الظروف الملائمة لاستمرارية الثورة كحركة تستهدف النصر لجميع المستضعفين على المستكبرين داخل البلاد وخارجها؛ الأمر الذي يخول لها تبني سياسة خارجية تعطي الأولوية لتوسيع نفوذها الإقليمي وإشعاعها الدولي من خلال التواصل مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية سعيا إلى بناء ما سمته في الدستور "الأمة الإسلامية الواحدة" مصداقا لقوله تعالى "إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون".
ومن غير المستغرب في هذه الحالة تضمين الدستور الإيراني مادة (المادة 11) تلزم الحكومة الإيرانية بإقامة كل سياستها الخارجية على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها ومواصلة السعي من أجل تحقيق الوحدة السياسية والثقافية في العالم الإسلامي؛ وهو هدف نبيل لولا أن ذات الدستور يتضمن تمييزا مذهبيا صارخا عندما يجعل من المذهب الجعفري الإثنا عشري وحده المذهب الرسمي للدولة غير القابل للتغيير إلى الأبد، ويحصر الصراع على منصب رئاسة الجمهورية في أتباعه دون غيرهم من المواطنين الإيرانيين.
ورغم أن توظيف الاستفزاز الخارجي كان فعالا في السياسة الداخلية الإيرانية لجهة توطيد سلطة رجال الدين وسطوة المرجعية الدينية العليا، فإن هذه الأخيرة ظلت تتوجس خيفة من مجتمع مدني إيراني حي وفاعل أثبت قدرته على الانتفاض في أكثر من مناسبة تعبيرا عن ضيقه بالنظام ونواهيه، وما جلبته سياسته من عقوبات اقتصادية وتجارية كانت وبالا على عموم الشعب. ولهذا فإن المرجعية الدينية العليا لم تتوان في تعزيز خطوات تأطير هذا المجتمع وفق ما تشتهي بترويج شعبي واسع النطاق لتأويلها الخاص بمعطيات تاريخية مفصلية في تاريخ البلاد. ومفاد هذا التأويل أن ثورة سنة 1906 لوضع حد للاستبداد فيما سمي بثورة المشروطة (أي وضع شروط دستورية تقيد سلطات الشاه المطلقة آنذاك) ونهضة سنة 1953 بقيادة الدكتور مصدق لتأميم النفط ومجابهة الامتيازات الاستعمارية لم يكتب لهما النجاح لأنهما كانتا حركتين غير عقائديتين، أي بعيدتين عن التعاليم الإسلامية، سقطتا سريعا في الركود. وقد ساعدها في ذلك أن الإيمان الديني شكل عبر التاريخ حتى قبل الإسلام مكونا بالغ الأهمية من مكونات الهوية القومية لبلاد فارس. وحسب وجهة النظر هذه يقتضي التحوط لأي فشل مماثل عبر الحرص على التقيد بالمبادئ الإسلامية التي تتطلب أن يكون الحكم وإدارة شؤون البلاد في يد الأشخاص الصالحين انطلاقا من قوله تعالى "إن الأرض يرثها عبادي الصالحين" وعلى هدي القرآن والسنة، ما يستوجب إشرافا تاما ودقيقا من طرف علماء المسلمين المتصفين بالعدالة والتقوى والالتزام في تبرير ديني واضح لتمرير مفهوم الفقيه العادل، الذي يجسد استمرار ولاية الأمر والإمامة زمن غيبة الإمام المهدي المنتظر حسب منطوق المادة 5 من الدستور الإيراني.
ورغبة في احتواء التطلعات الشعبية بموازاة مع تكريس الهيمنة الدينية تفتقت عبقرية المرجعية العليا عن تركيبة سياسية ودستورية تفسح المجال أمام الطموحات والمبادئ الديمقراطية بانتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية مباشرة من الشعب، ولكنها تضمن استمرارية مفهوم الثورة الإسلامية وتقيد الجميع بالتعاليم الجعفرية الإثنا عشرية؛ وذلك من خلال مؤسسات وصية منبثقة حصرا من فئة رجال الدين وحدها، انسجاما مع الاستهجان الذي كان الإمام الخميني يبديه لمفهوم الديمقراطية الذي اعتبره في إحدى خطبه شيئا مجهولا لا يمكن تضمينه للدستور، مشددا على أن الإسلام يكفي لوحده.
ويأتي على رأس هذه المؤسسات منصب المرشد الأعلى أي الولي الفقيه، جامع الشرائط لكي يضمن صيانة الأجهزة السياسية والإدارية المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة على أساس أن رسالة الدستور السامية هي تجهيز الأرضية العقائدية للنهضة، وإيجاد الظروف المناسبة لتربية الإنسان على القيم الإسلامية العالمية الرفيعة توطئة لعودة إمام الزمان المهدي المنتظر، الذي "سيملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت جورا".
واستنادا على ما سبق من رسالة دينية وروحية سامية مناطة بالولي الفقيه، فقد خوله الدستور الإيراني سلطات واسعة توجزها المادة 110 في:
- تحديد السياسات العامة للجمهورية الإسلامية الإيرانية بالتشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام، الذي يتم تشكيله بأمر الولي الفقيه نفسه، صاحب صلاحية تعيين أعضاء هذا المجمع الدائمين والمؤقتين حسب نص المادة 112 من الدستور.
- الإشراف على حسن تنفيذ هذه السياسات العامة.
- قيادة القوات المسلحة وإعلان الحرب والسلام.
- تنصيب وعزل وقبول استقالة كل من فقهاء مجلس صيانة الدستور ورئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزة، وقادة أفرع القوات المسلحة وقيادة الحرس الثوري، والمصادقة على نتائج انتخابات رئاسة الجمهورية.
وبهذا فإن الدستور الإيراني منح للولي الفقيه سلطات زمنية غير دينية لم تكن متخيلة من قبل الشاهات أنفسهم كما يرىErvanAbrahamian. سلطات تضاف إلى تلك الدينية باعتباره أكبر مراجع التقليد داخل الجمهورية في الفقه الجعفري الإثنا عشري، الذي يعد الإلمام به أساسيا لاختيار من يتولى منصب المرشد الأعلى، إذ تنص المادة 109 على أن المطلوب في تولي ولاية الفقيه الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه (علماء الذرة والفيزياء النووية وغيرها من التخصصات لا فرصة لهم)، والعدالة والتقوى اللازمين لقيادة الأمة الإسلامية (لاحظ كيف يمدد الدستور صلاحيات المرشد الأعلى إلى خارج حدود الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، والرؤية السياسية الصحيحة والكفاءة الاجتماعية والإدارية والتدبير والشجاعة والقدرة الكافية للقيادة.
إن هذه السلطات السياسية الزمنية الواسعة تمثل تغييرا جوهريا في وظيفة الولي الفقيه، الذي أصبح فاعلا ومؤثرا وصاحب الأمر والنهي في شؤون الدولة بعد أن كان نشاطه في البداية يسير جنبا إلى جنب مع نشاط الدولة ناصحا وموجها في أحسن الأحوال؛ الأمر الذي يسمح بالقول بأن ولاية الفقيه رغم الهالة الدينية التي تتدثر بها هي مجرد نظرية سياسية لنمط من الحكم خاضع لسلطة عمامة الفقيه التي صارت تستوعب البعدين الديني والسياسي معا إثر التطور الذي عرفته واجبات المرجعية الدينية العليا، التي تجاوزت الإفتاء الشرعي إلى المعاش اليومي بفضل استئثارها بعائدات الخمس وتحكمها في توزيعها.
ورغم أن أحدا لا يشكك في دور الإمام الخميني في تطوير الإطار النظري لولاية الفقيه من خلال محاضراته في النجف الأشرف المجموعة في كتاب بعنوان الحكومة الإسلامية سنة 1969 وريادته في تطبيقها عمليا، فإن المؤرخين ينسبون ظهورها لأول مرة إلى الإمام احمد بن محمد مهدي النراق (1771 - 1829)، الذي كان يبحث عن وسيلة لحل إشكالية السلبية السياسية التي سقط فيها الشيعة نتيجة نظرية الانتظار المرتكزة على حديث شكك كثير من الباحثين في صحة نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مفاده أن كل راية تخرج قبل ظهور المهدي، هي راية ضلالة وصاحبها طاغوت، ولتجاوز مأزق ضرورة أن تكون الإمامة مقتصرة على آل البيت وحدهم، معلنا أن من الممكن أن تعقد الولاية العامة للأمة الإسلامية إلى علماء الدين باعتبارهم الورثة الشرعيون للأئمة ونوابا لهم في خدمة صالح المجتمع المسلم.
ولكن أول لبنة في التطبيق العملي لولاية الفقيه سيضعها المرجع الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي (1851 – 1984) صاحب فتوى تحريم التبغ، باعتباره أداة لتأجيل عودة الإمام المغيب، والتي دفعت الشاه ناصر الدين القاجاري إلى إلغاء معاهدة الامتياز مع الشركة البريطانية للتبغ تجنبا للتوترات الداخلية. وقد تأسست هذه اللبنة من خلال نجاح الإمام الشيرازي في إرغام وكلائه في مختلف البلدان على إرسال الأموال المجباة من الخمس إليه في سامراء، ما جعله يصبح قوة مالية يتمكن من أن يستقطب آلاف الأتباع ويغدو مهاب الجانب لدرجة أن أحدا لم يستطع مسه بسوء عندما قال إذا رأيتم العلماء على أبواب السلاطين فبئس العلماء وبئس السلاطين، وإذا رأيتم السلاطين على أبواب العلماء فنعم السلاطين ونعم العلماء.
علاوة على هذه الإسهامات الفكرية والعملية لتطوير نظرية ولاية الفقيه سيستفيد الإمام الخميني في ترسيخها على كتابات مرجع تقليد أعلى آخر عاصره هو آية الله العظمى محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي (1928 - 2001) الذي كان يجاهر برفض كل أنظمة الحكم من ملكية وجمهورية وعسكرية، دكتاورية وديمقراطية لأنها من صنيعة الغرب الكافر وتستند على قوانين وضعية. وقد آمن هذا المرجع ذي النفوذ الكبير في كل من إيران والعراق وجبل عامل في لبنان بضرورة تطبيق ولاية الفقيه التي يتبوأ فيها المرشد الأعلى مكانة نائب الإمام، ويتمتع بالولاية العامة على الناس في عهد الغيبة الكبرى بالنص والتعيين ، ذلك لأن الولاية لله أولا، وللرسول ثانيا، وللأئمة ثالثا، ثم للفقيه العادل حتى يقوم صاحب الزمان. فالفقيه هو الراعي وبه وحده تصلح الرعية.
وعلى هذا الأساس لم يتوان السيد الشيرازي في دعم الإمامة الكبرى للخميني بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وذهب إلى حد إصدار فتوى لشيعة العراق يحرم عليهم القتال في صفوف الجيش العراقي بعد اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، معلنا أن القتال تحت لواء حزب البعث خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. غير أنه سيتراجع تدريجيا عن ذلك عندما فضل عليه الإمام الخميني السيد محمد باقر الحكيم لقيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق المؤسس سنة 1982، مفضلا الانزواء في الحوزة بقم، معيدا في دروسه ومحاضراته النظر في التجربة الإسلامية في إيران، وخاصة ما سماه وجهها الاستبدادي البعيد عن مفهوم الشورى الذي كان أثيرا على الأئمة.
وقد اعتبر عدد من الباحثين هذا الموقف من الشيرازي إعادة نظر في مفهوم ولاية الفقيه، وإقرارا منه بأنها نظرية سياسية دنيوية لبسط حكم علماء الدين المؤمنين بالمذهب الجعفري الإثنا عشري. ولا شك أن آراءه وأفكاره المتأخرة خاصة بعد وفاة الإمام الخميني شكلت دافعا للعديد من الدعوات المطالبة بتقييد سلطة الولي الفقيه وإلغاء المنصب دستوريا. دعوات برزت حتى من داخل المؤسسة الدينية نفسها كما يتضح من محاولات الرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي سعى إلى ذلك من خلال التيار الإصلاحي في البرلمان دون جدوى، واستنادا على إقراره بعدم وجود شكل واحد متفق عليه بين الفقهاء والمفكرين المسلمين للحكم الإسلامي، ولا شرائط مخصوصة متفق عليها، لأن الفهم الموحد والرؤية الموحدة للإسلام غير موجودين.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مراجع تقليد عليا أخرى كانت قد اعترضت على دسترة ولاية الفقيه وجعلها سلطة أعلى من كل السلطات إبان حياة الإمام الخميني نفسه مثلما هو الأمر بالنسبة لحليفه آية الله شريعت مداري، الذي اضطر الخميني إلى وضعه في الإقامة الجبرية سندرك أن هذا الأخير حرص كثيرا على أن تتدثر مؤسسة ولاية الفقيه منذ نشأتها برداء الدين بغية اكتساب هالة وقدسية شرعية، تساعد على استقطاب الأتباع وتعبئتهم خلف الولي الفقيه باعتباره يجسد التواصل مع الإئمة المعصومين.
إن هذه القدسية كانت مطلوبة لأننا أمام نظرية سياسية تخلت عمليا عن النظرية الإمامية بإجازتها إقامة الدولة دون اشتراط العصمة أو النص أو السلالة العلوية الشريفة، كما قضت على أهم ميزتين في الفقه الشيعي وهما التفكير العقلاني والاجتهاد، وقادت نحو المزيد من تأجيج أتون التفرقة بين المسلمين أكثر مما كانت عليه زمن الأئمة أنفسهم حيث يسجل التاريخ أن بعض الأئمة هادنوا الحكام الذين عاصروهم كما حصل مع الإمام الثامن علي الرضا، الذي قبل أن يكون ولي عهد للخليفة العباسي المأمون أو زمن نظرية النيابة العامة التي اكتفى خلالها الفقهاء بتأمين الغطاء الشرعي للسلطات البويهية وخاصة الصفوية في صراعاتها مع العثمانيين دون تجاوز مهمة الفقه و القضاء في تدبير الشؤون العامة للدولة.
ومن المرجح أن يستمر التأجيج أكثر في ظل تضخم دور الفقهاء على حساب الشعب، وبعيدا عن الشورى والديمقراطية، وما يولده هذا التضخم من ردود فعل مماثلة في المذاهب الإسلامية الأخرى. ولا حاجة للتدليل على أن نمو تيارات الإسلام السياسي في الدول العربية والإسلامية كان متزامنا مع نجاح الثورة الإسلامية الشيعية في إيران، واكتسب زخما من ذلك.