Wednesday 19 November 2025

Advertisement
كتاب الرأي

بنسعيد الركيبي: الحوار القبلي- القبلي مسار أساسي لإنضاج مشروع الحكم الذاتي

بنسعيد الركيبي: الحوار القبلي- القبلي مسار أساسي لإنضاج مشروع الحكم الذاتي بنسعيد الركيبي
يمثل الحوار القبلي–القبلي أحد المسارات الأساسية نحو إنضاج مشروع الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، إذ لا يمكن تصور أي صيغة سياسية قابلة للحياة خارج إطار المصالحة الداخلية بين مكونات البنية القبلية التي تشكل جوهر المجتمع الصحراوي. فهذه المنطقة مجال جغرافي، ونسيج اجتماعي شديد الحساسية، تتداخل فيه الذاكرة التاريخية للتحالفات وما رافقها من توازنات مع آثار تمزقات خلفها النزاع منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ما جعل العديد من الأسر والعشائر تتوزع بين المخيمات والأقاليم الجنوبية، وتباعد فيما بينها مسارات التجربة والمعيش. وفي ظل هذا الواقع، يصبح ترميم الثقة بين القبائل الصحراوية شرطا أوليا لكل انتقال سياسي، لأن الشرعية الاجتماعية تسبق الشرعية المؤسساتية وتمنحها معناها وعمقها.

إن القبائل الصحراوية تستمد مكانتها من منظومة ثقافية وسياسية تمتلك قواعد واضحة لاتخاذ القرار وتسوية الخلافات وتحديد المكانة داخل الجماعة. وقد حافظت هذه المنظومة على استمراريتها من خلال الأعراف والروابط الأسرية والعقود التقليدية، غير أن تراكم سنوات النزاع أحدث انقسامات أفقية داخل هذا البناء الاجتماعي، وأوجد مسافة شعورية بين من بقوا داخل الوطن ومن يعيشون في مخيمات لحمادة، الأمر الذي يجعل العودة إلى آليات الحوار الداخلي ضرورة لإعادة ترتيب العلاقات واستعادة الإحساس بالوحدة الاجتماعية.

ويقوم هذا الحوار على أبعاد مترابطة تبدأ باستحضار الخبرة العرفية في حل النزاعات، إذ يمتلك شيوخ وأعيان القبائل رصيدا واسعا من الممارسات التصالحية القادرة على إعادة بناء الجسور عبر لملمة الشمل وتشكيل توافقات تنبع من داخل الجماعة. كما يتطلب الأمر توفير فضاءات منتظمة تجمع ممثلين عن مختلف القبائل في أقاليم الصحراء وفي المخيمات، بما يشبه منتدى للحوار والمصالحة والتنمية. يتيح تبادل الرؤى حول المستقبل. ويتعزز هذا المسار عندما يرتبط بمشاريع تنموية مشتركة تمنح التعاون الاقتصادي دورا في إعادة تشكيل العلاقات، خصوصا في القطاعات التي تنسجم مع نمط العيش والموارد المحلية كالصيد البحري والرعي والطاقة واللوجستيك، لأن المصالح المشتركة تخلق شبكات جديدة من التعاون تتجاوز الثنائية القديمة بين الداخل والخارج. كما يمتد الحوار إلى بعد ثقافي ورمزي من خلال إحياء الذاكرة المشتركة، وتنظيم فعاليات ثقافية تعيد تعريف الانتماء القبلي داخل أفق وطني جامع.

وحين يأخذ الحوار هذا الطابع الشامل، يصبح أداة لإعادة صياغة علاقة القبيلة بالدولة على أساس المشاركة والمسؤولية المشتركة، ويتحول دور الزعامة التقليدية من موقع التنافس إلى مجال التنسيق ومن حراسة الذاكرة إلى الإسهام في صناعة المستقبل.  وهو ما يجعل الصحراء المغربية مؤهلة لتقديم نموذج خاص يستند إلى حكمة شيوخها وزواياها وإلى تقاليد الوساطة التي ميزت تاريخها، في تفاعل متوازن مع متطلبات العصر ومؤسساته.

وعندما يتحول الحوار القبلي–القبلي إلى ممارسة مستمرة تترجم في المصالحة والتشاور والعمل المشترك، يصبح رافعة مركزية لإنتاج ثقافة اجتماعية تتقبل الحكم الذاتي باعتباره امتدادا طبيعيا لمسار التماسك الداخلي. وتتحول الذاكرة القبلية من سجل للانقسام إلى مصدر للاندماج، وبذلك يستعيد المجال الصحراوي مكانته كفضاء للعيش المشترك ضمن السيادة المغربية الجامعة.