Sunday 19 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: ألف بداية وبداية.. شهرزاد في زمن الشبكة

نعيمة بنعبد العالي: ألف بداية وبداية.. شهرزاد في زمن الشبكة نعيمة بنعبد العالي

في البدء لم تكن الحكاية، بل كان النفس.

نفسٌ خائفٌ من العدم، يبحث في الظلمة عن صدى يشبهه.

ومن ذلك النفس وُلد الكلام، ومن الكلام وُلدت الليالي.

كلُّ روايةٍ تضيء، وكلُّ ضوءٍ يفتح طريقًا لحكايةٍ أخرى.

وهكذا استمرّت شهرزاد، لا تُنهي ولا تبدأ، بل تتنفّس في حكاياتنا نحن،

في الشبكات، في الصور، في الأصوات التي تتشابك كأنّها هواءٌ واحد.

ما زال الليل يمتدّ، وما زالت الحكاية تُعيد خلق نفسها في كلِّ فجرٍ جديد.

في البدء كان النفس، وفي النهاية... لا نهاية

 

كانت شهرزاد، منذ أول حكاية، تعرف أنَّ الكلام لا يُروى ليُختَم، بل ليُبعَث من جديد. كانت تعرف أنَّ الحكاية الواحدة لا تكفي لحمل العالم، وأنَّ كلَّ نهاية ليست سوى استراحة قصيرة قبل ولادة أخرى. لذلك، لم تكن تروي لتؤجِّل موتها فقط، بل لتمنح للحياة أكثر من وجهٍ وأكثر من صوتٍ وأكثر من احتمالٍ للنجاة. في كلِّ فجرٍ كانت تستقبل النور كأنّه امتدادٌ لنَفَسٍ سرديٍّ طويلٍ بدأ في الليلة الأولى ولم ينقطع بعد.

"ألف ليلة وليلة" ليست كتابًا، بل كَونٌ من الأصوات والأرواح، كأنّها خارطةٌ حيّةٌ لتعدُّد الوجود. في داخلها تتكاثر الحكايات مثل نوافذ تُفتح على نوافذ، كلُّ حكايةٍ تتداخل في أخرى كما يتشابك الحلم مع يقظةٍ بعيدة. كلُّ حدٍّ فيها قابلٌ للانكسار، وكلُّ نهايةٍ تتخلّلها بدايةٌ أخرى. في هذه البنية الدائرية يختبئ سرُّ البقاء: الحكاية استمرار النفس الإنسانيّ في وجه العدم.

لكن ما الذي تغيّر؟

مع أنَّ النفسَ الذي تتوالدُ منه الحكاياتُ يبدو شأنًا روحيًّا صرفًا، إلّا أنّه في زمننا هذا وجد له جسدًا جديدًا اسمه الشبكة. لقد تحوّلتِ الأنفاسُ إلى إشاراتٍ، والقصصُ إلى ضوءٍ عابرٍ بين الشاشات، لكنَّ جوهرها لم يتغيّر: ما زالَ كلُّ إشعارٍ أو تغريدةٍ أو مقطعٍ صغيرٍ يحمل أثرَ نفسٍ بشريٍّ يسعى لأن يُسمَع.

لم تَعُد الحكايةُ تمرّ من فمٍ إلى أذنٍ، بل من شاشةٍ إلى قلبٍ، ومن قلبٍ إلى آخر، حتّى صارَ الإنترنتُ هو فضاءُ التنفّسِ المشتركِ الجديد.

وهكذا تَحوّلَ ما كانَ روحًا قديمة إلى جسدٍ حديثٍ، دونَ أن يفقدَ رُوحه الأولى: رغبةُ الإنسان في أن يُروى، وأن يُواصَل.

لم تمت شهرزاد، بل تبدَّلتْ ملامحها. لقد خرجت من القصر والحريم، وها هي اليوم تحلّ في كلِّ شاشةٍ مضيئة، في كلّ صفحةٍ مفتوحة، في كلّ صوتٍ خافتٍ يعبر الأثير. صارت الشبكة بيتها الجديد، وصار جمهورها لا يُعدّ. لم تعُد تخاطب ملكًا غاضبًا، بل مخاطبًا متعدّدًا، متوزّعًا بين المدن واللغات. لم تعُد تحكي لإنقاذ رقبتها، بل لإنقاذ المعنى نفسه من الغرق في الصمت.

الحكاية اليوم لا تُروى لتُؤجِّل الموت، بل لتُوقظ الحياة من غيبوبتها.

العالم الرقميّ ليس غريبًا عن روح "ألف ليلة وليلة"، بل هو امتدادٌ طبيعيّ لها. فذلك الكون القديم كان قائمًا على التشعّب والتداخل، على التعدّد والتموّج، على السرد الذي لا يعرف الحسم.
وكما كانت الليالي القديمة تنفتح بعضها على بعض، تنفتح اليوم الصفحات والمواقع والنوافذ الإلكترونية في تتابعٍ لا ينتهي. كلُّ رابطٍ يقود إلى آخر، وكلُّ حكايةٍ تستدعي شقيقتها في فضاءٍ من الضوء المتحرّك. الشبكة الحديثة هي "الليلة الألف واثنتان"، استمرارٌ لا نهائيّ لحلمٍ بدأ ذات مساءٍ بعيدٍ في بغداد أو دمشق أو فاس.

ولأنّ الحكاية لا تعيش إلّا بوجود مستمعٍ، صار العالم كلّه الآن مجلسَ إنصاتٍ واحد.
من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، نكتب ونتبادل الصور والذكريات والخيالات. نعيد اكتشاف أنفسنا من خلال الآخرين، ونعثر في صوتٍ بعيدٍ على صدى نَفَسِنا الخاص.
لم يعُد السرد ملكًا لفردٍ أو طبقةٍ أو ثقافةٍ واحدة.

لقد استعاد طبيعته الأولى: فنّ الجماعة.

على الشاشات تتقاطع الأصوات مثل خيوطٍ شفّافة. كلُّ صوتٍ يبدأ من حيث انتهى آخر، وكلُّ بدايةٍ تلتهم نهايةً أخرى. ليس استمرارًا بل تداخلاً؛ ليس تكرارًا بل انصهارًا.

نحن لا نُكمل حكايات بعضنا، بل نحول دون انطفائها.

إنّه التداخل بين الأنفاس: كلُّ نَفَسٍ بشريّ هو بدايةُ حكايةٍ جديدة، وكلُّ حكايةٍ هي محاولةٌ لالتقاط نَفَسٍ سبقنا وترك أثره في الهواء.


هكذا تتكوّن الشبكة - أو لِنَقُل: نسيج الأنفاس.


فكلُّ كلمةٍ تُكتب، كلُّ صورةٍ تُنشر، كلُّ تغريدةٍ تُرسل، هي ذرّةٌ من هذا النفس الكونيّ الذي لا ينقطع.

التكرار في الشبكة ليس فراغًا، بل حياة. فيه يتجدّد المعنى كما تتجدّد أمواج البحر.

حكايةٌ تلي أخرى لا لأنَّ الأولى انتهت، بل لأنَّ الثانية تريد أن تُضيء طريقًا آخر، أن تُريها تعدّد المسارات، أن تقول لها: ثمة نوافذ أخرى، وأصوات أخرى، وأنفاس أخرى تسير في موازاة نَفَسك.
ذلك هو معنى "الاستمرار" الجديد: ليس استمرارية في الزمن، بل في الحضور؛ ليس امتدادًا خطيًّا، بل تجاورًا تنفّسيًّا، حيث الكائنات تتقاطع في الهواء ذاته.

وهكذا، بينما كان ملوك الأمس ينصتون خوفًا ورغبة، صار مستمعو اليوم يشاركون.
لم تعد المسافة بين الحاكي والمستمع قائمة. لقد ذابت في حوارٍ متواصل، في حركة تبادلية لا تعرف الحدود.

قد تكون شهرزاد اليوم شابًا في حلب أو امرأة في طنجة أو طفلة في سيول. لا يهمّ الاسم ولا اللغة، ما يهمّ هو استمرار النفس، استمرار الرغبة في الحكاية.


لقد خرجت شهرزاد من جسدها القديم لتسكن في ملايين الأجساد التي تكتب وتنشر وتعلّق وتُحبّ وتَحلم.

كلُّ حسابٍ على الشبكة هو نسخة صغيرة من الليالي القديمة، وكلُّ قارئٍ هو ملكٌ ينتظر الحكاية التالية.

هل تغيّر السحر؟ ربّما تغيّرت أدواته، لكن جوهره باقٍ.


ففي كلّ هاتفٍ محمول، في كلّ رسالةٍ تُرسل، في كلّ نصٍّ يُقرأ في صمتٍ أو يُسمَع في بودكاست، يتكرّر المشهد الأول: ليلٌ، صوتٌ، انتظارٌ، وميلادُ حكايةٍ جديدة.

إنّنا نحيا اليوم في ألف كونٍ متداخل، لا تُطفئ فيه النهايةُ ما قبلها، بل تتشابك لتفتح دروبًا جديدة.
النصّ الرقميّ، مثل الليالي القديمة، لا يُغلَق: يمكن العودة إليه، تعليقه، نسخه، إعادة صياغته. إنّه نصٌّ حيّ، مفتوح، يشبه النفس الذي لا يُمسك.

كلُّ قارئٍ هو شهرزاد، وكلُّ شاشةٍ هي ليلٌ جديد.

ومع كلِّ هذا الانفتاح، يبقى شيءٌ واحدٌ ثابتًا: رغبتنا في الاستمرار. نكتب لا لأنّ لدينا ما نقوله، بل لأنّنا نخاف الصمت. نتبادل الصور والذكريات لا لأنّها نادرة، بل لأنّها تُبقينا في دائرة الضوء.

نروي ونسمع ونُعيد النشر، لا لأنّنا نبحث عن الكمال، بل لأنّنا نرفض النهايات.
كلُّ نهايةٍ صغيرةٍ على الشبكة تفتح بابًا جديدًا.

كلُّ انقطاعٍ هو وعدٌ بلقاءٍ آخر، وكلُّ فجرٍ رقميّ هو استمرارٌ لليلٍ لم ينتهِ بعد. الشبكة لا تُطفئ القصّة، بل تُنعشها في كلّ لحظةٍ بآلاف الأنفاس.

هكذا، في زمنٍ يتّسع فيه العالم ويضيق في آن، نكتشف أنّنا جميعًا نتنفّس في النصّ نفسه.
أنَّ أصواتنا المتباعدة تتلاقى، وأنّ اللغة، أيًّا كانت، ليست سوى وجهٍ آخر للهواء المشترك.
الإنترنت — في عمقه الأجمل — ليس عالمًا افتراضيًّا، بل امتدادٌ أنثويّ للحكاية الأولى: يحتضن، يُصغي، يُعيد الخلق عبر التفاعل.

شهرزاد، في هذا الزمن، لم تعد تُقاوم ملكًا غاضبًا، بل فوضى المعنى، تشظّي الانتباه، سرعة الزوال. ومع ذلك، ما زالت تروي. تروي لتُعيد إيقاع النفس الإنسانيّ في عالمٍ يختنق بالسرعة. تروي لتقول:

لا حياة بلا حكاية، ولا حكاية بلا مستمع، ولا مستمع بلا نفسٍ آخر يستمرّ من خلاله.

في نهاية المطاف، ليس المهمّ أن نعرف من بدأ الحكاية الأولى، بل أن نواصلها.
ذلك هو سرّ "الألف بداية وبداية": أن نكتب لنُبقي الخيط ممدودًا، أن نتكلّم لأنّ الكلام نفسه هو شكلٌ من أشكال البقاء.

أن نحيا في نسيجٍ من الأنفاس المتقاطعة، كلٌّ يُنصت للآخر، وكلٌّ يضيف صوته إلى الكورال العظيم الذي اسمه الإنسان.

ولعلّ هذه هي الرسالة التي تهمس بها شهرزاد المعاصرة في آذاننا، من وراء الشاشات والمجرّات واللغات:
أنَّ القصّة لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي، لأنّها تتجدّد في كلّ نفسٍ جديد.
وما دمنا نتنفّس، سنظلّ نروي.