تعيش المجتمعات الحديثة مفارقة مركّبة: جيل جديد مشبع بالوعي الفوري، متصل بالعالم رقمياً، يرى ويقارن ويقيس نفسه بالمعايير الكونية، في مقابل بنى مؤسساتية تتحرك بمنطق التدرج، وتشتغل بزمن مختلف لا يُقاس بوحدات الغضب بل بإيقاعات القرار العمومي.
إن جيل Z هو ابن اللحظة الرقمية بامتياز، حيث لا شيء ينتظر، ولا شيء يُخفى، وحيث تتقاطع التجربة الفردية مع الفضاء العام في ثوانٍ معدودة. إنه جيل يرى أن العدالة لا تُؤجَّل، وأن الكرامة ليست مشروعًا بل حقًّا لحظيًا، وأن الإصلاح لا يحتاج إلى لجان وتوافقات بقدر ما يحتاج إلى جرأة في التنفيذ.
في المقابل، تتحرك الدولة – كجهاز معقّد – وفق زمن مختلف، زمنٌ يُقاس بالميزانيات، بالقوانين، وبآليات الضبط والتدرج والتفاوض، أي بمنطق الدولة لا بمنطق المنصة.
1. الزمن الاجتماعي الجديد: من لحظة الاحتجاج إلى هندسة المعنى
لقد أدخل الفضاء الرقمي المجتمعات في تحول عميق في إدراك الزمن. فالحدث لم يعد يُنتظر ليُحلَّل، بل يُستهلك ويُعلَّق عليه في لحظته. والموقف لم يعد ثمرة نقاش، بل انعكاس انفعالي لحظة تلقي الصورة أو الخبر.
في هذا السياق، صار الوعي الجمعي متسارعًا، نافد الصبر، ومشحونًا بتوقعات فورية.
لكن السياسات العمومية – بطبيعتها التوافقية والتقنية – لا يمكنها أن تتجاوب مع هذا الوعي المتسارع.
فهي ليست قراراتٍ جاهزةً بل مسارات تفاوضية تتقاطع فيها مصالح متضاربة ورهانات متشابكة.
إنها فعلٌ تاريخي تراكمي لا يُقاس باليوم، بل بمدى إعادة توزيع السلطة والموارد على المدى الطويل.
2. من الحق كشعار إلى الحق كمسار
الاحتجاجات الشبابية اليوم لا تعبّر فقط عن مطلب اجتماعي محدد، بل عن تحوّل في تمثّل الحق نفسه.
فالحق، في المخيال الجديد، لم يعد ثمرة نضال تاريخي كما في أجيال الستينيات والسبعينيات، بل أصبح حقًّا فوريًّا وجوديًّا متصلًا بالذات الفردية وبكرامتها الرقمية. إنه حقٌّ يُطالب به من منطلق التجربة الذاتية لا من منطلق الوعي الطبقي أو الإيديولوجي.
غير أن الحقوق الاجتماعية – في بعدها السياسي والاقتصادي – لا تُمنح ولا تُستخلص بالشعور، بل تُبنى ضمن هندسة معقدة للسلطة والسياسات.
وإذا لم يُترجم هذا الوعي إلى فعل منظم، فإنه يظل طاقة احتجاجية بلا أفق، تنفجر لكنها لا تُغيّر.
3. من ثقافة الغضب إلى ثقافة الاقتراح
ليس الخطر في الغضب، بل في تحوله إلى بديل عن الفعل...فالغضب، وإن كان شرعيًا، لا يصنع التغيير ما لم يتحوّل إلى مشروع...الاحتجاج، مهما كان صادقًا، يظل لحظةَ كشفٍ، لا لحظةَ بناء.
المطلوب اليوم هو الانتقال من الانفعال إلى الاقتراح، من رد الفعل إلى هندسة الفعل. أن يتحول الشارع من فضاءٍ للانفجار إلى مختبرٍ للبدائل.
أن يستعيد المجتمع المدني والجامعة دورهما في ترجمة الوعي إلى معرفة، والمعرفة إلى سياسات.
4. من الشارع إلى السياسة: عودة الفعل إلى مؤسساته
جيل Z الذي يملأ الشوارع والفضاءات الافتراضية بصوته العالي، يحتاج إلى أن ينقل هذا الصوت إلى المجال السياسي المنظم.
فالاحتجاج، في حد ذاته، لا يُغيّر موازين القوة إلا إذا وُجد من يُترجمه إلى فعل مؤسساتي.
والديمقراطية لا تقوم على رفض السياسة، بل على إعادة بنائها من الداخل.
إن المشاركة في الانتخابات، والانخراط في الأحزاب، والاقتراب من دوائر القرار، ليست تنازلات عن روح الاحتجاج، بل هي تجسيد متقدم له.
حين يصير الغاضب فاعلًا، والمحتج صانع قرار، يتحول الشارع من مطلبٍ إلى مشروع، ومن رد فعل إلى استراتيجية.
5. نحو إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والجيل الجديد
إن الدولة، في زمن جيل Z، مطالبةٌ بأن تعيد النظر في منهج تواصلها وآليات استيعابها للطاقات الشبابية.
فلم يعد الشباب يبحث عن الرعاية، بل عن الاعتراف؛ ولم يعد يريد الوصاية، بل المشاركة.
إن ما يجري اليوم ليس صدامًا بين جيلين، بل تباين بين زمنين: زمنٌ سياسي بطيء، وزمنٌ اجتماعي سريع. والمستقبل لن يكون لمن ينتصر في الصراع، بل لمن ينجح في توحيد الإيقاع بين الدولة والمجتمع، بين الزمن المؤسساتي والزمن الرقمي، بين البنية والحدث.
خلاصة:
ليست احتجاجات جيل Z علامة على أزمة مجتمع، بل على ولادة وعي جديد بالحق وبالزمن وبالمواطنة.
إنها ليست نهاية السياسة، بل بدايتها من جديد في شكلها الشبكي، اللحظي، الفردي، والمتعدد الأصوات.
لكن الوعي بلا تنظيم، والطاقة بلا تأطير، قد يتحولان إلى فائض غضب غير منتج. ومن ثم فإن الرهان الحقيقي هو تحويل هذا الفائض من الوعي إلى مشروع سياسي واجتماعي متدرج،
مشروعٍ يعيد الاعتبار للسياسة كفن الممكن، لا كاستجابة للمستحيل.
الدكتور فؤاد إبن المير
باحث في السوسيولوجيا