Wednesday 8 October 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: المفتشيات العامة… الإدارة التي لا تراقب نفسها

عبد الرفيع حمضي: المفتشيات العامة… الإدارة التي لا تراقب نفسها عبد الرفيع حمضي
لم تعد محاربة الفساد شعارًا انتخابيًا، بل لغة جيلٍ كاملٍ يرى أن قوة الدولة بقدر ما تُقاس بحجم مشاريعها  — التي يرحّب بها ويعتز بها —  فهي تقاس أيضًا بقدرة الدولة  على محاسبة نفسها.
ولهذا فالجيل الجديد يطالب  بأن تكون العدالة نظامًا إداريًا قبل أن تكون حكمًا  قضائياً.
ومع ذلك، فحين يرفع  الشباب شعار تجويد الحكامة  فهو لا يدرك أن داخل كل وزارة جهازًا من المفترض أن يكون رأس الحربة في هذه المعركة، اسمه المفتشية العامة.
جهازٌ خُلِق للرقابة والتتبّع والتحرّي والمحاسبة، لكنه  في واقع الحال يعيش في الظل، وُلد ميتًا بأدوارٍ باهتة، وكأنه وُجد فقط ليذكّرنا بما كان يجب أن يكون.
ففي البناء الإداري للوزارة، يُعتبر المفتش العام موظفا ساميا  تابعًا مباشرة للوزير، مثله مثل الكاتب العام، وهو المخول  قانونًا للقيام بكل التحريات والتقارير التي يكلّفه بها الوزير مباشرة .
لكن في الواقع، فإن الماسك الحقيقي بخيوط الإدارة هو الكاتب العام ، الذي يتمتع بمرتبة أعلى واقعيا وامتيازات أوسع ، تتمدد إلى حد انه حتى الإمكانيات اللوجستيكية والبشرية، لا  تُمنح للمفتشية العامة إلا بإذن منه، باعتباره المسؤول عن التدبير المالي والإداري للوزارة، رغم أنه بهذه الصفة فهو يخضع — نظريًا — لمراقبة المفتش العام  إذا طلب الوزير منه ذلك .
وهكذا يصبح الجهاز الرقابي رهينةً لمن يُفترض أن يراقبه، وتتحول المفتشية العامة من سلطة رقابة إلى وحدة إدارية محدودة التأثير، بلا وسائل ولا استقلالية.
أتذكّر جيدًا كيف تجسدت أمامي هذه المفارقة قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، حين دعانا الأستاذ عبد العزيز بنزاكور، رحمه الله، وكان حديث التعيين كوسيط للمملكة، إلى لقاء جمع كل المفتشين العامين للوزارات .
كان اللقاء في بدايته احتفاليًا، قبل أن يتحول إلى مرآة تعكس هشاشة المنظومة من الداخل، حين شرع السيد الوسيط في انتقاد ضعف تفاعل الوزارات مع شكايات المواطنين المحالة عليها من مؤسسته.
وأنا أتابع الرجل الذي يتحدث بنبرة تجمع بين الصرامة والحكمة، وعيناه تشعّان بالمسؤولية، قلت لنفسي: لا بد أن أصدق القول مع هذا الرجل. فقلت وأنا -حينها -مفتش عام ممارس:
“في تقديري، السيد الوسيط، إن الخلل لا يكمن في إرادتكم أو إدارتكم، بل في نية الوزراء وهندسة القرار داخل الوزارات.
فأنتم تراسلون الوزراء بشأن شكايات المواطنين، والوزير يحيلها على المفتش العام، الذي يوجّهها بدوره إلى المديرين المركزيين، وهؤلاء جميعًا يعملون تحت سلطة الكاتب العام. وهكذا تمرّ كل الأجوبة عبر ميزانه، لا عبر ميزان العدالة الإدارية.
لذا، إما أن تكون للمفتشيات  العامة استقلالًا حقيقيًا في عملها، أو أن تُصبح الكتابات العامة مخاطبيكم المباشرين.”
ساد صمتٌ قصير في القاعة، وبدت ملاحظتي ثقيلة. وفي استراحة الغداء، همس لي النقيب بنزاكور رحمه الله بابتسامته الهادئة:
“سي حمضي، واش أنا غادي نقول لرئيس الحكومة كيفاش ينظم إدارتو؟ أنا كنخدم داخل النص الموجود.”
تلك الجملة لم تكن مجرد ردٍّ دبلوماسي، بل تشخيصًا دقيقًا لحالة مؤسساتنا: نصوص متقدمة وممارسات متخلفة، صلاحيات مكتوبة وإرادات غائبة.
لقد مرّ عقدٌ ونصف من الزمن، والمشهد لم يتغير. فباستثناء المفتشيتين العامتين للإدارة الترابية والمالية، اللتين تتمتعان بوضع خاص، ما زالت باقي المفتشيات العامة تشتغل بإمكانيات هزيلة وصلاحيات مقزمة، وبدون رؤية موحدة لمهامها.
محصورة بين رضا الوزير الغائب وسلطة الكاتب العام الحاضر، لا تملك الموارد الكافية للتحقيق في الاختلالات، ولا الاستقلال اللازم لإصدار قرارات موضوعية، فتتحول تقاريرها في النهاية إلى وثائق أرشيفية أكثر منها أدوات إصلاح.
لقد أصبح غياب الفعالية داخل نظام المراقبة والمحاسبة — وفي مقدمته المفتشيات العامة — أحد أسباب تآكل الثقة في الإدارة.
فعندما يشعر المواطن، وخاصة الشباب، أن المؤسسات لا تسمع ولا تتحرك، يلجأ إلى الفضاء الافتراضي ليعرض شكايته، وليحوّل الألم الفردي إلى قضية جماعية.
وهكذا وجد جيل Z نفسه أمام إدارة مغلقة ومواقع مفتوحة؛ أمام جهاز تفتيش لا يرى، وشبكة رقمية تُنصت وتُضخّم.
إن ما يُعبَّر عنه اليوم على المنصات ليس نزقًا شبابيا، بل نتيجة طبيعية لغياب مؤسسات رقابية قوية وفعالة داخل الادارة.
في المقابل، نجحت دول عديدة في تحويل أجهزة المراقبة إلى ركائز للثقة العامة.
ففي فرنسا، أنشئت “المفتشية العامة للإدارة العمومية” بصلاحيات عابرة للوزارات ترفع تقاريرها مباشرة إلى رئيس الحكومة.
وفي كندا، تتبع المفتشيات العامة للبرلمان عبر مكتب المراجع العام لضمان استقلالها الكامل.
أما في المملكة المتحدة، فيُلزم القانون الإدارات بنشر تقارير التفتيش الداخلي بشكل دوري، باعتبارها وثائق للثقة العمومية.
وقد لخّص رئيس البنك الدولي الأسبق جيم وولفنسون هذا المنطق بقوله:
“محاربة الفساد ليست تنظيفًا للمؤسسات، بل إعادة بناءٍ لثقة الناس في الدولة.”
إن إعادة النظر في  المفتشيات العامة وتقوية أدوارها عوض حدفها ليست مسألة إدارية فحسب، بل خطوة سياسية وأخلاقية في آن واحد .
فتمكينها من الوسائل والاختصاصات والاستقلالية هو المدخل الحقيقي لبناء دولة تحاسب نفسها قبل أن يحاسبها المواطن.
فلا يُخشى على الدولة من خصومها، بل من مؤسساتها التي تصمت حين يجب أن تتكلم. فحين تُخرس أجهزة المراقبة، يتكلم الشارع بدلها.