لم يعد المشهد الاجتماعي المغربي كما كان. فالجيل الجديد من أبناء هذا الوطن، المعروف اصطلاحًا بـجيل Z، يعيش قطيعة ناعمة مع الأنماط القديمة في التفكير والانخراط والمطالبة بالحقوق. جيلٌ تشكّل وعيه في الفضاء الرقمي أكثر مما تشكّل في فضاءات الحزب والنقابة والجمعية. جيلٌ لا يعترف بالتراتبية الرمزية التي حكمت علاقة المواطن بالمؤسسة، بل يقيس الثقة بما يُلمس لا بما يُقال، وبما يُنجز لا بما يُعلن. لقد تغيّرت اللغة، وتبدّلت الرموز، واهتزّت المرجعيات. ومع ذلك، لا تزال مؤسسات الدولة ووسائطها التقليدية تتعامل مع هذا التحول بعين الشك و الحذر أو بمنطق الاستيعاب الفوقي، وكأننا أمام «ظاهرة سلوكية» لا أمام تحوّل بنيوي قيد التشكل في الثقافة السياسية والاجتماعية المغربية.
فالتحركات الشبابية الأخيرة في عدد من المدن المغربية لم تكن مجرّد ردّ فعل عابر على ضغوط اقتصادية أو اجتماعية آنية؛ بل شكّلت لحظة سياسية واجتماعية فارقة أعادت إلى الواجهة سؤال الثقة بين الدولة والمجتمع، وبين الشباب والمؤسسات. جيل Z المغربي ، جيل الإنترنت والذكاء الاصطناعي والوعي الكوني خرج إلى الفضاء العام لا ليحتج فحسب، بل ليقول إن العقد الاجتماعي في حاجة إلى ترميم حقيقي، يربط القول بالفعل، والنية بالإصلاح الملموس. جيل Z المغربي لم يُنتج وعيه داخل مؤسسات التنشئة التقليدية )المدرسة، الحزب، النقابة، الجمعية، الأسرة الممتدة(، بل تشكّل في فضاءات مفتوحة تهيمن عليها الشبكات الرقمية ومنصات التعبير الحر.
هذا الجيل لا يتحدّث بلغة الإيديولوجيا، بل بلغة الكرامة و العدالة.، فهو لا يطالب بالمستحيل، بل يطلب أن تكون الوعود الإصلاحية ذات أثر ملموس في معيشه اليومي.لكنّ الخطاب الرسمي غالباً ما يُخاطب هذا الجيل بمنطق الوصاية، أو يتعامل معه كـ"ظاهرة سلوكية" تستوجب المراقبة، لا كفاعلٍ مجتمعي واجتماعي جديد.من هنا يبدأ سوء الفهم: الدولة تُحيل على خطاب التنمية والتوازن، بينما يُحيل الشباب على خطاب الأثر والعدالة الفعلية.
هذا الجيل تشكّل وعيه في زمن التحولات الكبرى، انفجار التواصل الرقمي، انهيار المرجعيات الأيديولوجية، وتآكل إطارات الوساطة .وبالعودة إلى يورغن هابرماس، يمكن القول إن الفضاء العمومي المغربي انتقل من ساحات المؤسسات إلى ساحات الشبكة ، من المنبر إلى المنصة، ومن البيان إلى "الميم"، ومن الخطاب الجماعي إلى التدوينة الفردية، هكذا أصبح الفضاء الرقمي مختبراً جديداً للشرعية، فمنه تُبنى الرمزية، وتُسقط المصداقية، وتتشكَّل المواقف.
فجيل Z لا يحتج بالطريقة الكلاسيكية، ولا ينتظر ترخيصاً، احتجاجه غير هرمي، غير أيديولوجي، و لا مؤسسي، لكنه ذو أثر سياسي رمزي عميق، يُعبّر من خلال الصور والفيديوهات والميمات والتدوينات التي تُنتج رأيًا عامًا سريع التشكل. إنه احتجاج يندرج ضمن ما يُعرف بـ"المواطنة الشبكية": رقابةٌ جماعية، فضحٌ فوري، ومطالبة بالمحاسبة دون المرور عبر إطارات الوساطة المجتمعية.
فمؤشرات الثقة العمومية تُظهر أن فئة الشباب هي الأقل ثقة في المؤسسات، و أسباب ذالك مركبة و معقدة ، كضعف الأثر الملموس للإصلاحات الكبرى، وغياب العدالة المجالية بين الجهات. فجيل Z، خصوصاً في المناطق الهامشية، يرى أن الخطاب الإصلاحي لم يصل إلى التراب ( عدم انعكاس برامج و خطب و استراتيجيات الدولة المركزية على منجز الدولة الترابية)، مما جعل جوهر الأزمة يتجلى في كون الدولة تتحدث عن السياسات، والشباب يتحدث عن النتائج كمرأة عاكسة لمفهوم و مقومات الدولة الاجتماعية و اختبار لمشروعية الفعل العمومي الذي لن يكون مجديا ما لم يحرص على تثبيت النجاعة المؤسساتية و الانصاف الترابي و التمكين الشبابي عبر خلق تحول في المقاربة السياسية للدولة و اعتماد اليات إشراكية و إدماجية من قبيل:
- بناء سياسة تواصل عمومي جديدة ، حيث على الدولة أن تتحدث بلغة الناس، بلغة الصدق والنتائج، لا بلغة الأرقام الجافة. فالمواطن يريد أن يرى أثر السياسات في معيشه، لا في التقارير..
- إدماج الشباب في هيئات التشاور الجهوية عبر إحداث منصات تشاورية تجمع ممثلي الدولة والنقابات والمجتمع المدني والشباب، تكون فضاءً مفتوحًا للحوار حول قضايا التشغيل والتعليم والعدالة المجالية.
- إطلاق مبادرات لتجديد نخب إطارات الوساطة المجتمعية ، فلا معنى لمؤسسات تتحدث بلسان جيل السبعينات في زمن الذكاء الاصطناعي. المطلوب فتح المجال أمام الكفاءات الشابة لتجديد الدماء والفكر داخل المنظمات الجماهيرية.
- اعتماد مقاربة التمييز الإيجابي الترابي لصالح الجهات الهشة ، لأن الثقة لا تُبنى من المركز فقط. الجهات المهمّشة تحتاج إلى سياسات محسوسة في الخدمات والبنية والفرص، لا وعود موسمية.
- إدراج التربية الرقمية ضمن المناهج الدراسية فالمدرسة اليوم لا تُعدّ المواطن الرقمي القادر على التمييز بين الخبر والرأي، بين المعلومة والمغالطة. وهذا ما يجعل الشباب عرضة للخطابات الشعبوية بدل الوعي النقدي البنّاء.
إن جيل Z المغربي ليس جيلاً غاضباً ، بل جيلاً يبحث عن المعنى والانتماء والمشاركة، و لا ينبغي شيطنته، بل ينبغي تحويل غضبه إلى رأسمال اجتماعي إيجابي. كما لا ينبغي اعتبار احتجاجات هذا الجيل طارئة ، بل هي تعبير عن تحول بنيوي في الثقافة السياسية لمغرب الغد، كما يجب اعتبار المعركة الحقيقية اليوم هي معركة خلق التوازن ما بين بيداغوجية تصريف الخطاب الرمزي و فعلية الاثر الاجتماعي في المعيش اليومي لإعادة تشكيل اسس عقد اجتماعي جديد يبني مغرب الغد ، مغرب الثقة و المواطنة الشريكة و الدولة المنصتة.
هذا الجيل ليس ضد الدولة، بل ضد اللامعنى. لا يكره المؤسسات، بل يكره الفراغ الذي يجعلها بلا أثر. ولذلك، فإن الرهان الحقيقي ليس في احتوائه ، بل في إشراكه في صياغة القرار، في رسم السياسات، في بناء وطنٍ لا يُقصي أبناءه حين يختلفون، بل يحتضن اختلافهم كقيمة مضافة.
إنه وقت العمل بالعقل، لا بالعاطفة. وقت الإصغاء، لا الوعظ. وقت النقد المسؤول، لا التبرير الدائم. فمن دون عقلٍ جماعي ناقد ومسؤول، ستظل الثقة معلّقة، والاحتجاج لغة الوجود الوحيدة لجيلٍ وُلد في زمنٍ لم يعد يثق في الشعارات، بل في الأثر.
نعم تمتلك و تتمتع بلادنا رصيدًا رمزيًا قويًا من الثقة التاريخية بين الدولة والمجتمع، لكن تجديد هذه الثقة يتطلب شجاعة في الإصغاء، وجرأة في الإصلاح، وعدالة في الأثر تُحدث تحسنا مستداما في حياة الناس وتلك هي المعركة الحقيقية لبناء مغرب الغد ، مغرب الأمل الممكن.
جلال بالمامي
فاعل نقابي