Tuesday 30 September 2025
جالية

أريري: التهجير السوفياتي للإستونيين.. ذاكرة جرح لم يندمل

أريري: التهجير السوفياتي للإستونيين.. ذاكرة جرح لم يندمل عبد الرحيم أريري بمحطة pääskula بضاحية "تالين" التي انطلقت منها قطارات تهجير الإيستونيين
لو سألتَ أيَّ مواطن إستوني عن "أفضل الكتب المفضلة" لديه، لما تردد في القول إن كتاب: "بكعب عالٍ في ثلوج سيبيريا" En escarpins dans les neiges de Sibérie، هو أحب الكتب إليه، ليس في إستونيا وحدها، بل في مجموع دول البلطيق.

الكتاب/ السيرة الذاتية، الذي كتبته Sandra Kalnète (أديبة وبرلمانية ووزيرة خارجية ليتونيا سابقًا)، يحكي عن تجربة أسرتها التي تم اقتلاعها من جذورها بدولة ليتونيا قسرا، وتم ترحيلها بالقوة عام 1941 من طرف الحزب الشيوعي بموسكو إلى أصقاع سيبيريا، حيث سترى "ساندرا" النور عام 1952 في قرية نائية بسيبيريا اسمها Togour بدائرة Kolpachevo في منطقة Tomsk.

الكتاب، الذي صدر عام 2003، لقي نجاحا كبيرا وتهافت على اقتنائه معظم سكان حوض البلطيق (إستونيا، ليتونيا، ليتوانيا)، لأن كل أسرة من سكان هذه الدول لها قريب عاش محنة الترحيل القسري على يد شيوعيي موسكو نحو سيبيريا في الحقبة السوفياتية. وبلغ مجموع المرحلين بالقوة في تلك الحقبة من هذه الدول الثلاث 505 آلاف نسمة، أي ما يشكل آنذاك 20% من مجموع سكان دول البلطيق. وقد تُرجم الكتاب إلى 20 لغة في العالم.

إستونيا كان "نصيبها" من الترحيل القسري لنفي المعارضين إلى سيبيريا ما مجموعه 124 ألف نسمة (أي ربع المرحلين من البلطيق). وتم الترحيل في زمنين بارزين: الزمن الأول سنة 1940 حين انتصبت مجموعة من الفاعلين والنشطاء ضد ضم الاتحاد السوفياتي لإستونيا التي كانت آنذاك دولة مستقلة، فبادر الحزب الشيوعي السوفياتي، عبر ذراعه الاستخباراتي "كا جي بي"، إلى اعتقال ومحاكمة البعض، واللجوء إلى الترحيل القسري للبعض الآخر. وقد قررت "كا جي بي" آنذاك ترحيل 10 آلاف إستوني بالقوة لتحقيق غايتين: من جهة للتخلص من المعارضين بإستونيا، ومن جهة ثانية لتسريع وتيرة إعمار الأقاليم النائية والخالية بسيبيريا.
 

لكن تطورات الحرب العالمية الثانية قادت إلى قلب المعادلات، وتم احتلال دول البلطيق من طرف ألمانيا النازية من 1941 إلى 1943، مما أدى إلى عودة القبضة الشيوعية بعد هزيمة هتلر (إستونيا تعتبر تلك المرحلة احتلالا). وهو ما قاد من جديد إلى تمرد ضد ضم الاتحاد السوفياتي لإستونيا. واستمر هذا التمرد إلى سنة 1949، حيث لجأت موسكو من جديد إلى إحياء سياسة الترحيل القسري للأسر التي تضم المعارضين.

وهذا هو الزمن الأسود الثاني في جراح ذاكرة الإستونيين، إذ استغلت موسكو حادث رفض فلاحي إستونيا الامتثال لقرار الحزب الشيوعي القاضي بمنح المؤونة والدعم للمقاومين الحاملين لاسم "إخوة الغابة" في مارس 1949، فقامت بترحيل 20.700 إستوني قسرا نحو سيبيريا. ثم توالت عمليات الترحيل على امتداد سنوات 1949-1950-1951، إلى أن تم تفريغ إستونيا من ربع سكانها تقريبًا.

هذا الماضي المرعب لم تندمل جراحه بعد إلى اليوم، رغم مرور 35 سنة على فتح ورش الذاكرة من طرف سلطات إستونيا. إذ في كل يوم 14 يونيو من كل سنة يتم الاحتفال بما يسمى "يوم ذكرى الترحيل". وهذا اليوم يرمز إلى التاريخ الذي انطلق فيه أول قطار من مدينة "تالين" لترحيل الإستونيين. وكانت أول دفعة من المرحلين تضم 500 فرد (أغلبهم نساء وأطفال من أسر المعارضين)، تم إركابهم بالقوة نحو سيبيريا، في عربات خاصة بالبهائم في محطة السكك الحديدية بضاحية "تالين" تسمى محطة Pääsküla، وهي المحطة التي تم تصنيفها عام 1997 تراثا وطنيًا من طرف حكومة إستونيا، استحضارا لما قاله Urmas Paet، وزير خارجية "تالين" سابقًا، من أن الترحيل القسري للسكان في الحقبة السوفياتية هو "محاولة عنيفة لتدمير وطمس الشعب الإستوني".

ولهذا السبب قامت إستونيا بإحداث متحف بهضبة Toompea بالعاصمة يؤرخ لما يعتبرونه "احتلال إستونيا" من 1941 إلى 1991 على يد ألمانيا النازية والسوفيات الشيوعيين، حتى تبقى ذاكرة أبناء الإستونيين حية ويقظة تجاه هذا الماضي الأسود، الذي أبدعت الكاتبة Sandra Kalnète في سرد تفاصيله من خلال الرقص القهري في ثلوج وصقيع سيبيريا بكعب عالٍ!