Sunday 28 September 2025
جالية

أريري: البلطيق.. إستونيا في مصيدة الجغرافيا

أريري: البلطيق.. إستونيا في مصيدة الجغرافيا عبد الرحيم أريري على متن الباخرة الرابطة بين هلسينكي و"تالين"، عاصمة إستونيا
معظم الشعراء الذين تناولوا بحر البلطيق في دواوينهم الشعرية عالجوا ميزتين: الأولى تعتبر بحر البلطيق بمثابة "باب العواصف" و"مدخل الأمم نحو المجهول"، فيما الخاصية الثانية تتناول بحر البلطيق كمجال يجسد "الشرخ التاريخي" والحروب والصراعات بين الشعوب والدول التسع التي تطل عليه.
 
النموذج الساطع على ذلك أن بحر البلطيق، الذي صنع مجد مدينة "تالين" Tallinn(عاصمة إستونيا) على مر التاريخ القروسطوي، هو البحر الذي تريد روسيا تحويله اليوم إلى "مقبرة" لردم أحلام "تالين".
 
فرغم أن مدينة "تالين" ارتبطت بخط بحري مع مدينة هلسينكي (عاصمة فنلندا) في سنة 1965، حين كانت إستونيا تشكل جمهورية من بين الجمهوريات 15 المكونة للاتحاد السوفياتي سابقا، فإن سكان إستونيا كانوا محرومين من التنقل إلى الخارج في العهد الشيوعي، ولم ينعموا بهذا الحق إلا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وإعلان استقلال إستونيا عام 1991.
 
وكان أول قرار اتخذته سلطات دولة إستونيا بعيد استقلالها، هو إعادة ربط العاصمة "تالين" بموانئ الدول التي كانت تتعامل معها تجاريا. وكانت البداية مع السويد، عبر تنظيم رحلات منتظمة نحو ستوكهولم من ميناء " تالين" مع الشركة السويدية Nordström، في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، تلتها خطوط جديدة مع ميناء Kappelskär بالسويد كذلك، تلاها ربط "تالين" مع "ريغا" عاصمة (ليتونيا)، ومع ميناء Turku بفنلندا. وتم تتويج هذا المسعى عام 2011 بفتح خط مع مدينة سان بيترسبورغ بروسيا.
 
بفضل هذا التوجه، بدأت إستونيا تجني ثمار مقاربتها، وأضحى ميناء "تالين" أحد أهم الموانئ في بحر البلطيق الذي تطل عليه 42 مدينة؛ إذ بدأت "تالين" تنافس موانئ فنلندا والسويد، وسجل ميناء "تالين" 7 ملايين مسافر في السنة، وهو رقم مهم بالنسبة لدولة قزمية من حجم إستونيا التي لا يتعدى سكانها 1.300.000 نسمة، خاصة إذا استحضرنا ما سجله ميناء ستوكهولم (9 ملايين مسافر)، وما سجله ميناء هلسينكي (9،7 مليون مسافر) وميناء Turku الفنلندي (3 ملايين مسافر)، وميناء "ريغا" عاصمة ليتونيا (600.000 مسافر). وبالتالي، أضحت إستونيا في زمن قصير ضمن الثالوث الذي يهيمن على الملاحة البحرية في وسط بحر البلطيق (إضافة إلى فنلندا والسويد)، خاصة أن إستونيا استغلت الأزمة الاقتصادية التي عاشتها روسيا عام 1998 و"سرقت الأضواء" من أحد أهم موانئ روسيا، ألا وهو ميناء "سان بيترسبورغ"، مما جعل ميناء "تالين" يحتكر حينها 65% من المواد النفطية الروسية الموجهة إلى أوربا الغربية.  
 
انضمام إستونيا للاتحاد الأوربي عام 2004 ساعدها في الاستفادة من الرواج الاقتصادي، بشكل جعلها تحتكر حوالي 17% من التجارة البحرية بشرق البلطيق. هذا دون أن ننسى التدفقات السياحية الهائلة، خاصة من طرف الفنلنديين والسويديين الذين يحجون بكثافة رهيبة كل عطلة نهاية الأسبوع للتسكع بملاهي وحانات ومطاعم "تالين" بسبب انخفاض الكلفة، خاصة كلفة الكحول التي تباع بثمن بخس في إستونيا.
 
لكن هاته الوضعية لم تدم طويلا، لسببين اثنين: 
السبب الأول يكمن في أن أمريكا وأوربا دفعتا إستونيا لكي تدير ظهرها نهائيا لروسيا، رغم معارضة "إدغار سافيسار" Edgar Savissar، الذي شغل منصب وزير أول بعد استقلال إستونيا وكان زعيم حزب الوسط، وشغل منصب عمدة العاصمة "تالين" لمدة طويلة (توفي عام 2022)، إذ كان "سافيسار" يطالب بطي صفحة "الاحتلال السوفياتي" والتعامل مع روسيا بمنطق الربح الاقتصادي للطرفين.
 
السبب الثاني يرتبط بقرار روسيا وقف ارتهان مصالحها الاقتصادية الحيوية مع دول سوفياتية سابقة، وعلى رأسها إستونيا، التي اعتبرها الرئيس الروسي "بوتين" ارتمت في أحضان الغرب "بدون فرامل". من هنا، قرار الرئيس بوتين بالتعجيل ببناء بنية مينائية جديدة (ميناء Oust-louga)، تطل على بحر البلطيق في أقصى شمال شرق خليج فنلندا، لتوجيه جزء من صادرات روسيا النفطية وباقي السلع، من فحم وخشب وغيرهما، عبر هذا الميناء الجديد، بدل المرور من ميناء "تالين"، علما أن ميناء "oust-louga" يشهد جليدا طوال 4 أشهر في السنة، ومع ذلك اتخذ القرار مع الحرص على تجهيزه بكل السفن الكاسحة للجليد بشكل كافي، فأدى ذلك إلى انهيار قاتل في رقم معاملات ميناء العاصمة الإستونية.
 
ومما زاد من إرباك مسؤولي إستونيا أن "مطار تالين" ليس مطارا استراتيجيا يربط البلد بمختلف أحواض العالم، إذ رغم وجود مطار هلسينكي في دولة أخرى اسمها فنلندا، فإن مطار هلسينكي يعتبر بمثابة "المطار الدولي الفعلي" لإستونيا. كما أن المشروع الضخم الأوربي للربط السككي بين بولونيا ودول البلطيق (ليتونيا، ليتوانيا وإستونيا)، المسطر منذ مطلع الألفية الحالية ليكون جاهزا في سنة 2030 (Rail Baltic)، والذي كان الأمل من خلقه جعل إستونيا همزة وصل تجاري بين غرب أوربا وشرقها نحو روسيا ونحو دول القوقاز، ها هو مجمد منذ اندلاع الحرب الأوكرانية؛ إذ لم يعد من جدوى لهذا الربط السككي الباهض (6 ملايير دولار) والحدود مغلقة مع روسيا. فلا معنى لصرف هذا المبلغ إن تحولت "تالين" إلى محطة النهاية Terminus، وليس همزة وصل Hub.
 
وهذا ما يغيظ ساسة إستونيا الذين يترافعون اليوم بمختلف مشاربهم، من أجل تحويل مسار الربط السككي لدول البلطيق مع بولونيا ومع العمق الأوربي في بروكسيل، نحو فنلندا عبر بناء نفق يخترق بحر البلطيق، إسوة بنفق المانش الرابط بين إنجلترا وفرنسا.
 
لكن ما تناساه ساسة إستونيا أن المسافة بين تالين وهلسينكي هي 80 كلم (عكس المسافة القريبة لنفق المانش) وكلفة شق نفق ببحر البلطيق تتطلب بين 10 و13 مليار دولار.
وهذا هو بيت القصيد: فمن أين لإستونيا وفنلندا والاتحاد الأوربي بهذا المبلغ الضخم لبناء النفق، وصواريخ روسيا تمطر بسماء أوكرانيا، بل وتخترق المقاتلات الروسية سماء إستونيا بشكل جعل دول الحلف الأطلسي عامة ودول أوربا الغربية خاصة، تتقشف في سبيل مواجهة الأعباء الحربية خوفا من سحقهم على يد الدب الروسي؟!
 
لقد صدق الشاعر الليتواني Tomas Venclova، حين قال بأن بحر البلطيق ليس مجرد امتداد مائي فقط، بل هو أيضا فضاء مشحون بالصراعات والحروب والتفرقة بين الشعوب.