Wednesday 10 September 2025
في الصميم

أريري: تناسل الهجومات السيبيرانية ضد المغرب.. درس إستونيا

أريري: تناسل الهجومات السيبيرانية ضد المغرب.. درس إستونيا عبد الرحيم أريري
تناسلت في الآونة الأخيرة الهجومات السيبيرانية التي استهدفت مؤسسات عمومية بالمغرب، بشكل يهدد الأمن القومي ويهدد الأمن المعلوماتي، وبالتالي يهدد أمن المعطيات الشخصية للمغاربة وللمؤسسات الاستراتيجية. حسبنا هنا الاستشهاد بالهجومات التي استهدفت مؤخرا الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وزارة الإدماج الاقتصادي ومنصة الموثقين بالمغرب، بل حتى اللجنة الوطنية لمراقبة المعطيات الشخصية المؤتمنة على حماية معطيات المغاربة، لم تسلم هي الأخرى من الاختراق.
 
إذا كانت هذه الهجومات السيبيرانية يعتبرها البعض مصدر قلق وخطر، فإن هذه الهجمات تنهض كمنعطف بإمكان المغرب أن يجعل منها محطة لإقلاع رقمي واقتصادي استراتيجي مدر للثروة وللتشغيل الهائل. أي بدل أن «يلطم المسؤولون وجوههم وخدهم» في «حائط المبكى» بسبب هذه الاختراقات، ينبغي تحويل «النكبة السيبيرانية» إلى فرصة لصب الزيت في المحرك لتسريع تحقيق الأمن الرقمي بما يضمن للمغرب تعزيز سيادته الرقمية، ولم لا، تحويل المغرب إلى «تنين رقمي» يضرب له ألف حساب إقليميا وجهويا. 

ولنا في إستونيا خير مثال وأهم درس نقتدي به.
فرغم أن إستونيا دولة قزمية (لا يتعدى سكانها مليون ونصف المليون نسمة)، فقد استطاعت هذه الدولة الواقعة في أقصى شرق بحر البلطيق، أن تصبح عملاقا في المجال الرقمي على المستوى العالمي في ظرف لم يتجاوز 10 سنوات.
 
كيف ذلك؟
في عام 2007 تعرضت إستونيا لسلسلة من الهجومات السيبيرانية المكثفة من طرف روسيا عقب الأزمة الحادة التي عرفتها العلاقة بين البلدين، ردا على إقدام سلطات إستونيا على مسح كل آثار الوجود السوفياتي في الفضاء العام بالعاصمة «تالين» (للإشارة استقلت استونيا في غشت 1991 بعد تفسخ الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين)، وبلغ التوتر ذروته في ربيع 2007 حين قامت بلدية «تالين» Tallin بنقل تمثال «الجندي البرونزي الروسي» من ساحة بوسط العاصمة إلى داخل مقبرة عسكرية بالمدينة. هذا القرار اعتبرته موسكو إهانة للجنود الروس الذين سقطوا في معارك الحرب العالمية الثانية، وإهانة للطائفة الروسية بإستونيا التي تمثل حوالي 20% من سكان هذا البلد البلطيقي.
 
ردا على ما اعتبرته موسكو إهانات، شنت روسيا حربا سيبيرانية مكثفة على إستونيا، أدت إلى تعطيل معظم المؤسسات السيادية بالبلد من رئاسة وحكومة وبرلمان وتلفزة، فضلا عن أبناك وموانئ وباقي المرافق الاستراتيجية بإستونيا.
 
وبدل أن يتباكى مسؤولو إستونيا وينهاروا بسبب الهجوم الروسي، قرر ساسة «تالين» تحويل هذه الهجومات السيبرانية إلى فرصة لإدخال إستونيا إلى نادي الكبار عالميا، خاصة وأن إستونيا الحديثة العهد أنذاك بالانضمام للاتحاد الأوروبي وللحلف الأطلسي، لم تكن تتوفر على مقومات اقتصادية مهمة ليكون لها موطئ قدم مع عمالقة أوروبا أو لمواجهة الدب الروسي. 

من هنا القرار الاستراتيجي الذي اتخذه الرئيس الإستوني السابق  «توماس إلفيس» Toomas Hendrik Ilves (قاد البلاد من 2006 إلى 2016)، بوجوب تمكين إستونيا من بنية رقمية فعالة وآمنة وجيدة. وبالتالي جعل بلاده تنخرط باكرا في التكنولوجيا وفي الرقمنة الشاملة لكل الخدمات والمرافق العامة والخاصة.
 
أول خطوة قامت بها إستونيا هي تحسيس شركائها في الحلف الأطلسي، بوجوب استحضار هذا النوع من المخاطر السيبيرانية على الأمن العام. ودافعت إستونيا بقوة على إحداث بنية أو خلق مؤسسة داخل الحلف الأطلسي تتولى مكافحة الهجومات السيبيرانية.
 
صحيح أن الوعي بالخطر السيبيراني لم يتولد مع هجمات روسيا على إستونيا عام 2007، بل يعود إلى سنة 2002 حين وجهت «قمة براغ» آنذاك، نداء لإحداث برنامج سيبيراني دفاعي للحلف الأطلسي، وكذا تنصيص «قمة ريغا» ،عاصمة لاتفيا، في عام 2006 على اعتبار الهجومات السيبيرانية «مخاطر متوقعة». لكن هجومات روسيا على إستونيا قادت إلى تسريع المسلسل وتبني الحلف الأطلسي سياسة واضحة ورسمية في المجال السيبيراني بالاستثناد إلى التجربة الإستونية.
 
في يوم 14 ماي 2008 تم توقيع الاتفاق المؤسس للمركز العسكري المختص في مواجهة الهجومات السيبيرانية تحت اسم «مركز الامتياز للدفاع السيبيراني التعاوني» (Centre de cybercooperation de L’OTAN). وبتاريخ 28 أكتوبر 2008، تم اعتماد هذا المركز (CDDCOE) كبنية عسكرية للحلف الأطلسي مثل باقي البنى العسكرية البالغ عددها 18.
 
لم تجد العاصمة «تالين» Tallin صعوبة في أن تكون مقرا لهذا المركز المختص في صد الهجومات السيبيرانية (وبإجماع أعضاءالناتو)، لكون إستونيا كانت من الدول القلائل التي انخرطت باكرا في هذا الموضوع من جهة، ولكون مدينة «تالين» اكتسبت خبرة في هذا المجال من جهة ثانية، ولكون إستونيا كانت من بين البلدان التي تعرضت لهجوم سيبراني عنيف.
 
اختيار إستونيا كمقر «لمركز الامتياز للدفاع السيبراني»، جعل الأضواء تسلط عالميا على العاصمة «تالين»، وأضحت هذه الأخيرة قبلة للندوات والمؤتمرات الدولية المختصة في كل ما يهم المجال الرقمي، من أشهرها مؤتمر «Cy Com» الذي يعقده الحلف الأطلسي كل سنة بإستونيا، ويحج إليه آلاف الخبراء من كل أصقاع الكون للوقوف على آخر مستجدات الحماية السيبيرانية وآخر صيحات الرقمنة في العالم.
 
هذه الخبرة والشهرة جعلت الاتحاد الأوروبي في عام 2013، يختار إستونيا لتكون مقرا لـ «لوكالة الأوروبية لمعالجة نظم المعلومات» (LISA)، وهي مؤسسة تتولى حماية وتدبير كل ما يهم فضاء شنغن من الناحية الأمنية (فيزا، بصمات رقمية، طلبات اللجوء، معلومات قضائية، إلخ...)، ضدا على رغبة فرنسا التي نزلت بكل ثقلها ولوبياتها للظفر بهذا الامتياز، ولم تفلح أمام صلابة ملف إستونيا وأمام شهرة وخبرة مدينة «تالين» كعاصمة عالمية للرقمنة.
 
اليوم تجني إستونيا ثمار اختياراتها ونباهة ساستها وحدس قادتها. وأضحى وسم L’E-Stonie أشهر وسم عالمي مرتبط ببلد ما، وتحولت العاصمة «تالين» إلى عاصمة للتكنولوجيا العالية الجودة وعاصمة الخدمات الرقمية المتطورة. فتحولت إستونيا من قزم يهاب مخالب الدب الروسي، إلى «تنين» تغازله دول العالم وتتودد إليه للاستفادة من خبرته وتجربته في هذا المجال السيبيراني.
 
فما المانع من أن يستلهم المغرب تجربة إستونيا؟!