جاءت إقالة الوزير الأول في ظرف بالغ الحساسية، حيث يعيش الجزائريون سلسلة من الأزمات المتلاحقة التي تكشف يومًا بعد يوم عجز السلطة عن إدارة الدولة بطريقة عقلانية. ومع أن الكثيرين كانوا ينتظرون أن يشكل القرار بارقة أمل لبعث إصلاح حقيقي، إلا أن التعيين اللاحق لشخصية مطعون في نزاهتها على رأس الحكومة كان بمثابة الصدمة، لأنه عكس بوضوح أن منطق الصفقات والولاءات لا يزال أقوى من منطق الكفاءة والمصلحة العامة.
حافلة الحراش: صورة عن دولة بلا تنظيم
حادثة انقلاب حافلة النقل الجماعي في الحراش وما نتج عنها من ضحايا أبرياء، لم تكن مجرد حادث مرور عادي، بل تحولت إلى رمز لفشل الدولة في تنظيم أبسط المرافق العمومية. إذ انكشفت هشاشة البنية التحتية، غياب الرقابة، وانعدام استراتيجية جدية للسلامة المرورية. وقد زاد من وقع الفاجعة غياب خطاب رسمي مسؤول يواسي عائلات الضحايا ويطمئن الرأي العام، وهو ما يعكس انفصال السلطة عن الشعب.
اختفاء تبون: رئيس غائب عن الأزمات
في لحظات حساسة كهذه، كان من المنتظر أن يظهر الرئيس ليخاطب المواطنين ويعطي توجيهات واضحة. لكن الغريب أن تبون اختفى عن الأنظار، تاركًا البلاد في حالة ارتباك. هذا الغياب يطرح تساؤلات جدية حول من يدير فعليًا شؤون الدولة، ويعزز الانطباع السائد بأن القرارات تُصنع في الكواليس بعيدًا عن أعين الرأي العام.
تخبط الوزارات: صراعات وأوامر متناقضة
لا يخفى على أحد حالة التخبط التي تعيشها الوزارات، حيث تتخذ قرارات متسرعة وعشوائية ثم يتم التراجع عنها أو تعديلها بعد أيام. قرارات تتعلق بالدخول المدرسي، بقطاع النقل، أو بتسيير الأزمات الاجتماعية، كلها تعكس غياب رؤية موحدة، وكأن كل وزارة تعمل بمعزل عن الأخرى. هذه الفوضى التنظيمية تزرع حالة من الإحباط واللايقين لدى المواطن الذي لم يعد يعرف من يصدّق ومن يتبع.
إقالة الوزير الأول ليست الحل
التجارب السابقة أثبتت أن تغيير الوجوه لم يكن يومًا كافيًا لمعالجة الأزمات العميقة التي يعيشها البلد. فالمشكل لا يكمن في الوزير الأول كشخص، بل في طبيعة المنظومة السياسية والاقتصادية التي تفرض على أي مسؤول أن يسير في إطار محدد سلفًا، حيث تغيب الشفافية، وتنعدم الرقابة الفعلية، ويتفوق منطق الولاءات على منطق الكفاءة. ولهذا، فإن أي إقالة أو تعيين جديد، ما لم يكن مصحوبًا بإصلاحات جذرية في أسلوب الحكم وإدارة الشأن العام، يبقى مجرد تغيير شكلي لا أثر له على أرض الواقع.
إن مرور نذير العرباوي على منصب الوزير الأول بشكل صامت ومن دون أي بصمة واضحة، يعكس بجلاء أن هذا المنصب أصبح هامشيًا، وأن المشكل يتجاوز الأشخاص ليصل إلى طبيعة هندسة الحكم ذاتها، حيث تُختزل السلطة في دوائر ضيقة وتجعل الحكومة مجرد واجهة شكلية.
القرارات العشوائية: سياسة الهروب إلى الأمام
من أبرز سمات المرحلة الحالية أن السلطة تعتمد على قرارات عشوائية هدفها امتصاص الغضب الآني، بدل وضع خطط واقعية طويلة المدى. فبدل معالجة جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، تُتخذ إجراءات ترقيعية لا تزيد الوضع إلا سوءًا، مثل فرض ضرائب جديدة أو إصدار بيانات متناقضة. وهكذا تُدار البلاد بمنطق ردود الأفعال، لا بمنطق الاستراتيجيات.
نظرة استشرافية: إلى أين يسير الوضع؟
إذا استمر المشهد على حاله — رئيس غائب، وزارات متخبطة، وقرارات عشوائية، وحكومة يقودها فاسد — فإن البلاد مهددة بدخول مرحلة أخطر.
اجتماعيًا: سيتضاعف الاحتقان الشعبي، خاصة مع غلاء المعيشة، انهيار الخدمات العمومية، وفقدان الثقة في المؤسسات. وقد يترجم هذا الغضب في شكل احتجاجات متفرقة تتحول إلى انفجارات اجتماعية يصعب التحكم فيها.
اقتصاديًا: سيؤدي غياب الرؤية إلى مزيد من عزوف المستثمرين، واستمرار هروب رؤوس الأموال، ما يضع الاقتصاد الوطني في حالة جمود مزمن.
سياسيًا: استمرار غياب الرئيس وتعيين وجوه فاسدة سيؤدي إلى أزمة شرعية أعمق، حيث تتسع الهوة بين الشعب والسلطة، ويترسخ الإحساس العام بأن الدولة لا تدار بمنطق المؤسسات، بل بمنطق الصفقات والمصالح الضيقة.
مستقبليًا: إذا لم يتم تدارك الوضع بإصلاحات جذرية، فإن الجزائر مهددة بفقدان فرصها التاريخية في التحول إلى دولة قوية في المنطقة، لتبقى رهينة أزمات متكررة تجعلها في موقع التابع بدل القائد.
أزمة دولة وليست أزمة أشخاص
إقالة الوزير الأول في هذا التوقيت، وتعيين شخصية فاسدة خلفًا له، ثم الصمت الرئاسي المريب، وحوادث مأساوية مثل حافلة الحراش، والتخبط الوزاري، كلها حلقات في سلسلة واحدة: سلسلة تكشف أن الجزائر تعيش أزمة دولة، لا أزمة أفراد. فالمشكل ليس في تغيير الأسماء، بل في طبيعة النظام الذي يعيد إنتاج نفسه بطرق مختلفة دون أن يقدم حلولًا حقيقية للشعب.
إن ما يحتاجه الجزائريون اليوم ليس إقالة وزير أو تعيين آخر، بل بناء دولة مؤسسات حقيقية، تقوم على الشفافية والمحاسبة، وتضع المواطن في قلب السياسات العامة، بدل أن تظل حبيسة منطق الصفقات الداخلية والصراعات الخفية.
