من المنطقي والمعقول تماما الاعتراف بأن مهرجان مراكش الدولي للفيلم مهرجان مُحترف، وهو يُشكل قمة ما استطعنا إتقانه حتى اليوم في باب تنظيم التظاهرات السينمائية الدولية، لذلك يبدو موضوعيا، أو هكذا بدا عند تأسيسه، قاطرة جميلة ولتطور السينما المغربية.. هذا من جهة.
مهرجان مراكش الدولي للفيلم مهرجان، من جهة أخرى، يَجدُّ لتحقيق توازنٍ، صعبٌ هُوَ في الحقيقة من المنظور الذي تبنّاه مُنظِّموه منذ البداية، بين بُعدٍ "إشعاعيّ" وطني حقيقي، يمس المهنة وممارسيها بما في ذلك ثقافتها والجانب الإبداعي فيها، وآخرُ دوليٌّ يتكاملُ مع الأول، وذلك من حيث أنه يفتح باب الاطلاع عن قُرْبٍ على التجارب السينمائية الكبرى عبر العالم ـرمزية ساحة جامع الفنا باعتبارها تراثا إنسانياـ والاستفادة من روحها وإنجازاتها التقنية والفنية الرفيعة (ربما كانت الاستفادة من التركة المالية والتقنية التعليمية مهنيا للإنتاجات الأجنبية هي الأهم بالنسبة للدولة، فهل استعملت كفاية لإقناعها بالاهتمام بالجانب البنيوي في بناء استراتيجي لسينما وطنية؟) على واجهات متعددة، أساسها ونواتها الواجهة السينمائية في إطار صناعة فنية وثقافية مغربية بمعناها الواسع والمندمج في سياق التنمية الحداثية، أو التحديث التنموي، والعصرنة ذات البعد البنيوى المُساير لمشروع المجتمع الجاري الاشتغال عليه منذ أكثر من عُشارية لحد الآن.
المهرجانات على اختلاف قيمتها «المركانتيلية» والثقافية والفنية والسياسية والسياحية تكشف عن نفسها بشكل غير قابل “للتقنيع” من خلال برامجها، ومن خلال نوعية ومستوى وتمثيلية المدعوين لحضورها، وخاصة وطنيا.. فمن خلال استقراء هذا الجانب، نكتشف الكثير عن توجه التظاهرة في بلادها ولأي اختيارات فنية وثقافية تجنح وما مدى اتساع تمثيلية منصفة في التعامل مع هذه المسؤولية.
في هذا السياق يبدو أن برامج مهرجان مراكش الدولي للفيلم منذ تأسيسه (أتساءل إن لم يكن الأهم هو ما انتهت إليه الآن نُضجاً) تحاول تحقيق بعدين إشعاعيين، في توازن صعب فرضته مراكش/المغرب من جهة، وطبيعة بنية المهرجان من جهة ثانية:
يتمظهر "الإشعاع" الأول في "إخراج "النجوم العالميين" بعد النجاح في إحضارهم لمنح "امتلاءٍ نيتشوي" للمكانة المراد للمهرجان احتلالها عالميا (في "استحمامات" جماهيرية احتفالية بفضاءات عمومية: جامع الفنا مرة أخرى). ونعتقد بأن هذه البرمجة تسعى لضرب عصافير عديدة بحجر واحد:
أول هذه العصافير تنشيط المدينة بتمكين جزء حيوي من شبابها من التماهي مع نماذج تشكل قاطرة للتحقق من طموحاتٍ موجودةٍ سلفًا على قاعدة نمط ثقافي قريب منا ومُلائم لنا؟؟
ثانيها تحيين نفعيٌّ لصورة المدينة-الرمز إعلاميا كحاضرةٍ عالمية مُنافسة لفضاءات حضرية تحتاج تظاهرات كبرى وبحجم دولي لتحتفظ بحظوظها كاملة في سباق سياحي-اقتصادي-سياسي (ثقافي؟) مُحترف الوسائل عالميا.
ثالثها خلق مئات من "فرص الشغل المؤقتة" (من المُستفيد من الخدمات المحترفة والباذخة التي "يتكئ" عليها المهرجان في تنافسيَّته التي تصرف فيها الملايين!!) التي تساعد على "تنفيس" الضغط الرهيب لبطالة تضرب أرقاما قياسية في وسط يحتاج استقرارا اجتماعيا لتنمية واستثمار البعد الثاني المذكور أعلاه بالحاضرة النموذج الثقافي الحضري.
رابعها خلق فرصة حقيقية للفيلم وللسينمائيين المغاربة (من يحضر، ومن يستدعى، بل ومن يستدعى بشرف وتكريم على قدم المستواة مع الضيوف الأجانب!!!)، على اختلاف تخصصاتهم، لكن المُؤهلين منهم على مستوى الحساسية الإبداعية (فاقد الشيء لا يلتقطُ أرْقاهُ) للاحتكاك بالسينمات العالمية المختلفة عملا بمنطق تطوير صناعة الإبداع الوطني، وانسجاما مع إحدى أسس قيام هذا المهرجان المغربي/القاطرة فماذا تحقق ويتحقق من هذا البعد الرابع؟
إذا تأملنا في الفقرات المُقنَّنة وذات الامتياز في هيكلة المهرجان كلجنتي التحكيم والمسابقتين الرسميتين والدرس السينمائي والبساط الأحمر من جهة، وإذا تمعنا في تلك المخففة القُيود نخبويا أو تلك المُنْتَظِمة في تراتُبِيَّةٍ أقل تفْضِيلية (حذف الكثير منها بعد تجريب قصير مسألة نوعيَّة المردودية !!) في المهرجان مثل: الندوات أو توقيع كتب أو عروض سينمائية موازية، ورشات حرفية للطلبة والشباب، ماعدا تلك المخصصة للسينما الضيف، أو عروض خاصة بفئات ذات احتياجات خاصة، أو تنظيم أعمال إحسانية على هامش المهرجان…. فسنلاحظ ما يلي بالنسبة لهذا البعد الرابع والأهم على الإطلاق، وهنا أكتفي بطرح التساؤلات:
- لماذا المساهمة الوطنية في لجان التحكيم غالبا ما تستنجد بأسماء من حقول ومهن (نحترمها ونقدرها على كل حال) ليست في صلب الإبداع السينمائي، الأدب والطب النفسي والرواية والشعر والإنتاج… أليس "النقد السينمائي" أقرب للملاءمة، أم أن "المعادلة" عالميا تتوفر في تلك الحقول بما فيها الفيلم المغربي "المُصْطفى" ولا تتوفر في النقد السينمائي (لا أدافع عن أحد، بل عن فعل فكري إبداعي) الذي ربما كله مجرد "نقْضٍ سُوليمائي"!؟
- لماذا المساهمة في المسابقة الرسمية "طولا وقصرا" كانت بمنطق جد ضيق، إن لم تكن بمنطق جد خاص ثقافة ولغة، وهل البعد سينمائي هنا بالذات والبقية مجرد سوليما؟
- لماذا الدرس السينمائي، وهو أهم ركن في البعد الثقافي والإبداعي البيداغوجي السينمائي محدود ونخبوي وشبه مُغلق ولا يشرك بعضا من سينمائيينا الذين يستحقون حتى في بلدان الكبار سينمائيا الذين نسعد بحضورهم ونسعى للاستفادة منهم؟؟
- وأخيرا، وليس آخرا، لماذا البساط الأحمر (دفء الإنتاج و"شهوانية" متعة الإبداع ونخوة استراحة المبدع بعد تعب الاجتهاد على شراسة المنافسة…) عالميا يستحيل في مراكش إلى بساط أزرق (أكتفي بالإحالة على الزرقة بالمعنى الدارج للكلمة)؟ فهل هو جزء من السخرية والمسخ المراد به عرض القصور في استيرادنا للتظاهرات كما هو الشأن في استيرادنا للتكنولوجيا المرتبطة بندرة الزمن والإنجاز الدقيق بينما نستعملها نحن "لحرق الزمن الوفير" الذي لا نعرف ما نفعل به من شدة غياب التخطيط والتوقع والتوجه نحو المستقبل؟
النجم المصري عادل إمام
فإذا كان بساطهم الأحمر (هم أسياد السينما التي تفتح آفاق الإبداع والحلم والتخييل والحوار مع الذات ومع الآخر، وتساهم في بناء قيم مجتمع عصري وحداثي حقيقي، كما تدافع عن قيمهم وتساهم في الغزو الثقافي الذي يبقى على تفوقهم وعلو كلمتهم وثقافتهم)، أحمر لأنهم يستعرضون عليه لبضع دقائق العمل المُضني السينمائي في كل صوره التقنية والإبداعية، والمدهش والمنسجم ضمن مشروع مجتمع عصري، يتأسس على قيم الحرية والحق والجمال والعقل والكفاءة والتخصص والمحاسبة والنقد والاستحقاق، فلماذا بساطنا أزرق؟
نظرة بسيطة عبر التلفزة واليوتوب لأغلبية المارين منا فوقه تظهر كثرة الخواء الذي نستعرضه عليه: شباب وشيب، إناث وذكور من آفاق ومهن وحقول تتراوح بين الطرب الشعبوي والشعبي، والسينما والتلفزيون، والسياسة والعمل الجمعوي، والرياضة والجماعات المحلية، والإذاعة والصحافة بأشكالها، لا أعمال لهم معروضة ولا هم نجوم متميزون بعطاءات دخلت التاريخ، بل سجلت حتى في الجغرافيا المحلية يمرون على بساط ليس لديهم ما يحكون له ولا عنه؟؟؟؟؟ فيا لتيه قاطرتنا "الجميلة"، ويا لبؤس بساطنا الأزرق!!!