الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: مؤتمر فكر 13.. يا أمة "اقرأ".. اقرئي!

عبد الحميد جماهري: مؤتمر فكر 13.. يا أمة "اقرأ".. اقرئي!

لا يحتاج المستبد إلى المثقف، ففي كل الأنظمة الاستبدادية يكون أكبر مثقف هو.. الرقيب. فهو أكثر الناس قراءة لما تمنع قراءته: أي ما ينفع الناس.

والرقيب في الدولة هو الضمير، وهو ملاك لحشر الأنف في الذهنية العربية.

وأول ما يمكن العقل من التفكير والثقافة من الانتشار هو نهاية الرقيب، على الضمير وعلى العقل وعلى المتعة الفكرية..

ولا يحتاج المتعصب إلى التفكير ولا إلى الكتاب، فهو من يختار العقول قبل دور النشر، وهو من يختار نهاية مسبقة لكل من يختلف معه: لا مكان للمعرفة، فالسيف أصدق أنباء من الكتب في ذهن المتعصب.. أمامنا اليوم ليس مالك ولا ابن رشد بل أمامنا داعش، وأمامنا ليس السيوطي ولا الفارابي بل الصدر، وأمامنا اليوم بنك وليس العقل.. وهؤلاء الأئمة لن يعينوننا على التفكير الحي اليوم بما يعني إعادة التفكير في ما اعتقدناه حسم: الهوية، الثقافة العربية الإسلامية، التدين (وليس الدين) والسلطة، الآخر، التعددية العقدية في الفضاء العربي الاسلامي. كأولويات تتفرع عنها كثير أشياء أخرى، بها تتم هيكلة العقل.

وبما أنهم لا يجدون نفعا، فلا حاجة للمستقبل بهم، ولا يمكن أن نتصوره معهم.

وهذه الأولويات تمتح من ثالوث الجرأة: (الحرية، العقلانية، والحداثة) المبرر المطلق للوجود، وبغيره لا يمكن أن نتحدث عن سياق ربيعي في الردة العربية.

الربيع العربي بالنسبة للفكر والثقافة، على هامش المنتدى الذي يلتئم اليوم في الصخيرات بدعوة من مؤسسة الفكر العربي، لحظة سياقية، كان منتظرا منها أن تقلب التربة التي ساعدت على التخلف وأعطت الغطاء الحيوي للاستبداد، وثقافة الاستبداد. وانهيار الربيع العربي هزيمة أولا للفكر الحديث وللثقافة اليانعة، وهزيمة مرة للوجود العربي المستكين إلى شرقيته الاستبدادية، كما لو كانت حمضا نوويا يميزها عن كل الكيانات الحية في العالم اليوم.

أمامنا أولا تفكيك شيفرة التدين على ضوء الإعاقات الكامنة فينا حاليا: المرأة، السلطة، التعددية، حرية المعتقد، الضمير، الذكاء الثقافي، العلاقة مع الأديان الأخرى، الحسم مع الزمن الذهبي وتنسيب زمن الخلافة وإدراجه في التاريخ عوض تركه في السماء وفي أحلام الشهادة، في حضارة شعارها الأول «اقرأ».. لا يقرأ المؤمنون: وهذا أول خرق سافر للتدين هو اللاقراءة، وعندنا لا يتجاوز سقف القراءة ما كان في القرن الثالث حتى الخامس، أو بمعنى آخر فآخر الأنباء بلغتنا نحن الصحفيين نجدها في الموطأ أو في السنن للترمذي (مع التقدير الكبير للمجهود الفكري المجتهد الرائع الذي قام به الأئمة الأبرار)!

كيف يمكننا أن نتحدث عن دور للثقافة في خارطة لا يتجاوز فيها زمن القراءة بالنسبة للإنسان العربي 6 دقائق سنويا (زمن سيجارة لا أكثر) مقابل 200 ساعة للفرد في أوروبا.

ولنا أن نتساءل مستنكرين: ماذا لو لم يأمرنا الله سبحانه وتعالى في أول الوحي باقرأ!! هل كنا سنعيش في العصر الطباشيري المأكول؟

وأمة الكتاب لا تنتج سوى 5 آلاف كتاب (90 ألفا في أمريكا، 40 ألفا في اليابان) مقابل 400 مليون عربي: سأكون بدوري كسولا وأترك للقارئ أن يخمن النسبة...

الأفكار الأساسية لإعادة الحياة إلى التفكير الديني المتفاعل مع الحياة؛ تحتاج إلى كتاب، أو كتاب ثان، بعد القرآن الكريم، ويمكن أن نقترح على المفكرين والمثقفين الحاضرين كتاب مالك شبل، فقد وضع 27 مقترحا لتجديد الفكر الديني أو ما أسماه إصلاح الإسلام اليومي وعنونه بـ «من أجل إسلام للأنوار». ما من شك أن كتاب مالك شبل يثير ويصدم ويحث على السجال، كما أنه يخلخل الكثير من القناعات ويذهب بعيدا في تلمس السبيل الذي بإمكانه أن يطرح «خارطة طريق» لإصلاح شأننا الديني العام. ويمكن، لمن يبحث عن الاستفزاز في كل فكرة جديدة أن يلخص ما قام به أحد المفكرين والباحثين المثابرين في الوقت الراهن بكونه مجرد «تجذيف» يبحث عن الإثارة، أو أنه في أحسن الأحوال خطاب موجه إلى أقلية من النخبة العربية الإسلامية، لكن مالك شبل يختار، منذ بداية تقديمه لمجهوده، أن يضع ما يعتبره معابر ضرورية لإصلاح حالتنا في سياق المفكرين المتنورين، لهذا فهو يلح منذ البداية على أنه «لا يمكن أن نصلح إصلاحا عميقا إلا الاشياء التي نحبها بعمق وقوة إحساس.. ويمكن أن نسنده بأبحاث وشجاعة كل من محمد الطالبي في تونس ومحمد أركون وبشارة خضير في بلجيكا ومحمد سعيد العشماوي وناصر أبو زيد في مصر ومحمد عابد الجابري في المغرب، الأموات منهم والأحياء.

ولعل فكرة عبد الصمد الديالمي «من الحداثة إلى التراث» هي الطريق إلى تفكير جدي في التربة التي أنبتت الاستبداد والجهل والطغيان والتقوقع.. عوض الطريق المعكوس الذي تفرضه علينا القراءة الاصولية «من التراث إلى العصر الحديث». وهي الثقافة التي تسوغ الآداب السلطانية، والاستبداد والفكر الميت.

ولعل من حسنات الربيع العربي، قبل وبعد الثورات، هو الجرأة على الاقتراب من عقد السلطة والثقافة والتدين وعلاقتها برؤية الإنسان المسلم اليوم. لا يمكن أن نترك الفخاخ الفكرية العتيقة تعطل الفكر العربي، وتركب على الموجة الديموقراطية لتنيخ بها إلى.. خيمة القبيلة والعشيرة.

الربيع العربي هو أولا فرصة لعقلنة التاريخ العربي، وغير ذلك لا يمكن أن نعتبره ربيعا للعصر الحديث. كل مشروع العصر الحديث بالنسبة للعرب المسلمين (كتاريخ وليس كعرق) هو الخروج من معادلة الأمية.. أو الاستهلاك أو هما معا.

إننا نسكن هذا العالم، ولا يبدو أنه يسكننا، وفي مفارقة لاكانية (نسبة إلى عالم النفس جاك لاكان) نحن نفكر حيث لا نوجد (الماضي السحيق) ونوجد حيث لا نفكر.... وهي المعضلة، ويا أمة اقرأ .. اقرئي!