Thursday 12 June 2025
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: بعد العيد.. الأضحية كمجهر اجتماعي

 
عبد الرفيع حمضي: بعد العيد.. الأضحية كمجهر اجتماعي عبد الرفيع حمضي
بعد العيد، تهدأ العواطف، وتنسحب سحب الاحتفال، وتتراجع حرارة الحكايات العابرة، ويعود المجتمع إلى وتيرته العادية. تنتهي العطلة، وتُطوى لحظات التجمع العائلي، ويعود كلٌّ إلى عمله وحياته. ما كان، في لحظة ما، قضية مركزية، ينزاح شيئًا فشيئًا نحو الهامش. وهنا، بالتحديد، تبدأ فرصة التفكير.

إن لم نستغل هذا الزمن الهادئ لطرح الأسئلة الحقيقية، فسنكون كمن أضاع فرصة نادرة لفهم ذاته. فالأعياد، كما الحوادث الكبرى، لا تنتهي بانتهاء طقوسها؛ بل تظل تسكن ذاكرتنا الجماعية، كمرآة تكشف مكنوناتنا، وتفضح تناقضاتنا، وتدعونا لإعادة النظر في أنفسنا.

عيد الأضحى هذا العام لم يكن كسابقيه. فقد جاء على وقع جفاف ممتد، وأزمة اقتصادية ضاغطة، ووضعية حرجة للقطيع الوطني. وفي هذا السياق، أصدر جلالة الملك محمد السادس، بصفته أميرًا للمؤمنين، نداءً واضحًا ومباشرًا يدعو فيه المواطنين إلى الامتناع عن ذبح الأضاحي، حفاظًا على الثروة الحيوانية، ورأفة بالفئات الاجتماعية، وحماية لهم من مضاربات السوق.

وقد استُقبل هذا النداء الملكي، في عمقه الأخلاقي والديني والاجتماعي، بكثير من الارتياح والتفهم، واعتُبر لحظة فارقة في ممارسة القيادة الدينية للدولة، وإشارة قوية إلى أهمية التوفيق بين التعاليم الدينية ومتطلبات الواقع والمصلحة العامة.

لكن، مع اقتراب العيد، ظهرت ممارسات متعددة؛ أغلبها التزم بالتوجيه، ومنها من راوغ أو تجاهل أو تحدّى، أحيانًا بدافع الارتباك في التوفيق بين المرجعيات المتعددة التي يتلقاها المواطن في سوق الفتاوى المفتوح.

فهل ما حصل مجرد خلاف حول شعيرة دينية؟ أم هو مرآة لهشاشة التنشئة الدينية، وبطء في تكيّف البعض مع التحولات التي يعرفها المجتمع، خصوصًا عندما تمسّ الموروث أو ما يُعتبر من “المقدس الاجتماعي”؟

وإذا كان ماكس فيبر قد أكد أن الفهم الحقيقي للمجتمع يمرّ عبر “الفهم التأويلي للمعنى”، أي الإنصات لما يحرك الأفراد والجماعات في العمق، فإن عبد الله العروي يرى أن “التدين لا يكون عقلانيًا إلا إذا خضع لمؤسسات التأطير العمومي، لا للعفوية أو الإرادة الفردية”. وهي ملاحظة جوهرية تساعدنا على فهم هذا النوع من التدين الذي يتغذى من مصادر متضاربة: من الشارع، والإنترنت، والخطاب العاطفي.

في المقابل، يطرح هذا الواقع سؤالًا محرجًا أمام مؤسسات البحث: أين نحن من تحليل مثل هذه الظواهر الحية؟ لماذا لا تتحوّل أحداث كعيد الأضحى لهذا العام، وما رافقها من تفاعل ديني واجتماعي، إلى موضوع بحث أكاديمي رصين؟ لماذا نترك لحظات كاشفة كهذه تمرّ بلا تفكيك، بينما تُمنح شهادات عليا في مواضيع منفصلة عن نبض المجتمع، من قبيل “صورة الذئب في الشعر الجاهلي”؟

ليس الهدف هنا الانتقاص من الأدب الجاهلي، فهو جزء من تراثنا، ولكن أن تستغرق أطروحة جامعية عشر سنوات في بحث دلالات حيوان في نصوص ما قبل الإسلام، بينما مجتمع اليوم يبحث عن أجوبة حول السلوك الديني المعاصر وتحوّلات المرجعية، فهذا يُثير القلق  حول جدوى البحث العلمي.

ومن بين الأسئلة الحارقة التي يجب أن تُطرح اليوم من يُشكّل الوعي الديني  للمغاربة؟
هل يرجع المواطن فعلاً إلى خطبة الجمعة، أو المجلس العلمي المحلي، أو وزارة الأوقاف، أو قناة محمد السادس، أو برنامج “ركن المفتي”؟

أم أن المنصات الجديدة – من يوتيوب إلى فيسبوك – أصبحت المرجع الأول، بمن فيها من “شيوخ” يبثّون خطابات مشبوهة، تُغرِّر بالناس وتُربك وعيهم؟

نحن أمام زمن تتزاحم فيه المرجعيات، وتضعف فيه سلطة التأطير المؤسسي، ويختلط فيه صوت العالِم بصوت المؤثر، والمفتي باليوتيوبر. وهذا ما يجعل المواطن في مواجهة “تديّن رقمي” غير مضبوط، قد يُنتج ارتباكًا أكثر مما يُنتج يقينًا، ويؤسس لتديّن فردي هش، لا تحكمه مؤسسات، ولا يستند إلى علم راسخ.

فهل تأخذ المؤسسات الدينية مسؤوليتها في تجديد خطابها وآلياتها؟ وهل يأخذ الفكر المغربي مسؤوليته في تفكيك ما جرى وتحويله إلى درس جماعي؟

“نحن لا نتقدم إلا إذا أعدنا قراءة تجاربنا الجماعية، ولو كانت مؤلمة أو حرجة، من أجل تحويلها إلى وعي جديد.”(بول ريكور)
فالعيد مضى، لكن الأسئلة قائمة.

والحياة مستمرة… ولا بد من دراستها.