Friday 6 June 2025
سياسة

هندسة الاعتراف.. التنسيق الخفي بين الرباط ولوبيات لندن وواشنطن وتل أبيب لتثبيت موقف بريطانيا من الصحراء المغربية

هندسة الاعتراف.. التنسيق الخفي بين الرباط ولوبيات لندن وواشنطن وتل أبيب لتثبيت موقف بريطانيا من الصحراء المغربية دانييل كاوتشينسكي، النائب المحافظ وعضو لجنة الشؤون الخارجية
في تطور يحمل أبعادًا جيوسياسية عميقة، أعلنت المملكة المتحدة دعمها الرسمي للمبادرة المغربية للحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية، وهو موقف لم يأتِ كنتيجة طبيعية لتحولات داخلية في السياسة البريطانية، بل ثمرة مسار معقّد من التنسيق المحكم، نسجته المديرية العامة للدراسات والمستندات المغربية (DGED)، بقيادة ياسين المنصوري، مع شبكات التأثير البرلمانية داخل مجلس العموم البريطاني، من خلال تلاقي مصالح استراتيجية متعددة الأطراف، جمعت الرباط وتل أبيب وواشنطن في منظومة ضغط غير مسبوقة في تاريخ النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية.

ما جرى خلف الستار لم يكن مجرد حملة دبلوماسية تقليدية، بل عملية اختراق ذكية ومتصاعدة لمراكز اتخاذ القرار البرلماني والحزبي في لندن، حيث شُكّلت كتلة نيابية مكونة من 31 نائبًا من حزب المحافظين وحزب العمال، وُظّفت فيها آليات التأثير السياسي والرمزي، من خلال عضوية مزدوجة للعديد من هؤلاء النواب في ثلاث مجموعات محورية: مجموعة الصداقة البريطانية-المغربية، مجموعة أصدقاء إسرائيل (Conservative Friends of Israel وLabour Friends of Israel)، ومجموعة الصداقة البريطانية-الأمريكية (British-American Parliamentary Group). هذا التداخل في الانتماءات لم يكن عفويًا، بل محسوبًا بدقة من طرف الفاعل المغربي، الذي وعى مبكرًا أن صناعة الاعتراف السياسي البريطاني تمرّ عبر بناء جسر قوي بين الملف المغربي ومصالح إسرائيل داخل البرلمان البريطاني، وربطهما مع رهانات الأمن الإقليمي من المنظور الأطلسي الأمريكي.

من بين أبرز الشخصيات البرلمانية التي لعبت أدوارًا محورية في هذه المعادلة الدقيقة، برز اسم دانييل كاوتشينسكي (Daniel Kawczynski)، النائب المحافظ وعضو لجنة الشؤون الخارجية، الذي يتمتع بعلاقات قوية مع مراكز الفكر الأطلسية، وبتأثير واسع داخل مجموعتي الصداقة البريطانية-المغربية والبريطانية-الإسرائيلية. وقد استطاع كاوتشينسكي، من خلال موقعه، تجميع دعم برلماني عابر للأحزاب، مستفيدًا من شبكة علاقاته داخل لجنة الدفاع ومجموعة أصدقاء إسرائيل المحافظين (Conservative Friends of Israel). إلى جانبه، نشط النائبان أندرو بيرسي (Andrew Percy – نائب رئيس مجموعة أصدقاء إسرائيل المحافظين) وبيل إسترسون (Bill Esterson – نائب عمالي حافظ على توازن خطابه بين القيم العمالية والدعم الواقعي لحلفاء بريطانيا في المنطقة)، إضافة إلى النائب المسلم من أصول باكستانية أفزال خان (Afzal Khan)، الذي شكّل حالة رمزية للتقاطع بين المكون الإسلامي العمالي والدعم العملي لموقف المغرب.

لقد تمّ الإعداد لهذا التحول في الموقف البريطاني عبر مراحل دقيقة من التمهيد السياسي والإعلامي والدبلوماسي، انطلقت مع نهاية عام 2022، حين بدأت الرباط – عبر قنوات استخباراتية ودبلوماسية – بتركيز جهودها على اختراق الطبقة الثانية من البرلمانيين البريطانيين الذين لا يخضعون بالضرورة لقيادة مركزية حزبية صارمة، بل يتحركون في دوائر المصالح والتمثيل الرمزي للجاليات الاقتصادية والإثنية، خصوصًا تلك المرتبطة بإسرائيل وبالمصالح الخليجية. في هذا السياق، شُكّلت شبكة دعم غير معلنة من نواب يشتغلون على ملفات الأمن السيبراني والتبادل الاستخباراتي ومكافحة الإرهاب، تمّ توريطهم إيجابيًا في الدينامية الأمنية المغربية، عبر سلسلة من الزيارات واللقاءات الخلفية التي نُظّمت في الرباط ولندن وتل أبيب، بتنسيق ثلاثي بين المديرية العامة للدراسات والمستندات المغربية (DGED)، ومراكز الضغط والدفاع عن إسرائيل في بريطانيا مثل المركز البريطاني للاتصال والإعلام (Britain Israel Communications and Research Centre – BICOM)، والمؤسسة البريطانية القانونية لدعم إسرائيل (UK Lawyers for Israel – UKLFI)، بالإضافة إلى دعم واضح من الجهات الأمنية المتحالفة مع المغرب في الكونغرس الأمريكي، وخصوصًا من خلال لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي.

في خلفية هذا التنسيق المحكم، كانت المديرية العامة للدراسات والمستندات المغربية تدرك أن نجاحها لا يكمن فقط في إقناع وزارة الخارجية البريطانية، بل في تهيئة المسرح السياسي والرمزي داخل البرلمان، لتشكيل ضغط داخلي يسمح للخارجية البريطانية بالمناورة تحت غطاء “الطلب البرلماني” و”الإجماع العابر للحزبين”. وهو ما تحقق فعلاً في رسالة البرلمان الموقعة في مايو 2024، والتي تطالب بالاعتراف بمقترح الحكم الذاتي كحل وحيد وواقعي للنزاع، وهو نفس الموقف الذي عبّر عنه لاحقًا ديفيد لامي (David Lammy)، وزير الخارجية في حكومة حزب العمال، في يونيو 2025، في بيان اعتُبر تتويجًا لمسار معقّد من التراكمات غير المرئية.

لقد كشفت هذه العملية أن الدبلوماسية المغربية لم تعد تتحرك فقط وفق أنماط تقليدية من الضغط والاستعطاف، بل باتت تشتغل وفق منطق “إعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية” عبر التأثير غير المباشر، وربط الملفات الحساسة مثل الصحراء المغربية بمنظومات متداخلة من الأمن، الطاقة، والاستقرار الإقليمي. وقد كان التنسيق مع الحلف الإسرائيلي عنصرًا حاسمًا، ليس فقط في لندن، بل أيضًا في واشنطن، حيث تتقاطع مجموعات الضغط الثلاثية (المغربية، الإسرائيلية، والأمريكية) في الدفاع عن رؤية مشتركة للمنطقة، تقضي بضرورة تحجيم التهديدات العابرة للأمن الجماعي، وفرض هندسة إقليمية جديدة أساسها التعاون الأمني والاستخباراتي العابر للحدود.

إن ما جرى لم يكن مجرد اعتراف سياسي، بل إعادة تموقع جيوسياسي شامل داخل العقل الاستراتيجي البريطاني، تحت تأثير قوى متعددة تلاقت في لحظة تاريخية دقيقة. وقد برز في هذا السياق الدور المحوري لجلالة الملك محمد السادس، الذي أرسى فلسفة دبلوماسية جديدة، قوامها التبصر الاستراتيجي والهدوء التكتيكي، وإعادة بناء علاقات الرباط مع القوى الكبرى وفق منطق الاحترام المتبادل، وتغليب المصالح المشتركة على الخطابات الإيديولوجية الجامدة. فمن خلال توجيهاته الحكيمة، استطاعت المملكة أن ترسم لنفسها موقعًا متقدمًا في خرائط القرار الغربي، ليس فقط كحليف تقليدي، بل كشريك موثوق في إعادة تشكيل الاستقرار الإقليمي، وفاعل عقلاني في مشهد دولي مضطرب، يُجيد اقتناص التحولات وتحويلها إلى مكاسب سيادية وديبلوماسية مدروسة.