Saturday 31 May 2025
كتاب الرأي

نبيل عادل: عبثيات.. عندما تتحول اللغة من أداة تواصل إلى وسيلة إذلال جماعي

نبيل عادل: عبثيات.. عندما تتحول اللغة من أداة تواصل إلى وسيلة إذلال جماعي نبيل عادل

في قلب مدينة صفرو، حيث تختلط رائحة الفلاحة بقهوة البارود اللغوي، تدخل "زهرة" إلى وكالة بنكية محلية. زهرة، مواطنة مغربية لا تشكو من هُوية ضائعة: تزن الزيتون بميزان جدتها، وتقرأ سورة مريم من مصحف أمها، وتحلم بعربة حليب، لا بثورة صناعية. تدخل الوكالة تحمل طلبًا بسيطًا، قرضًا لتحقيق حلمها البسيط، لا تمويلاً لمصفاة نفط. فتُفاجأ بالمدير "بوجمعة" ببذلته الرمادية وربطة عنقه المزركشة التي تبدو وكأنها تلوث بصري. ينظر إليها بنظرة الموظف المقهور الذي يريد الانتقام من الشعب، ويطلب منها بكل وقاحة استعمارية: "عافاك، ديري ليا الطلب بالفغونسي."

زهرة تخرج مذهولة، تتجه إلى أقرب سيبير، تدفع 20 درهمًا لشاب يكتب لها طلبًا بلغة لا تفهم منها سوى "قرض" و"مدة". تمر الشهور، ويصلها عقد القرض... باللغة الفرنسية، عشر صفحات كاملة من الجمل الملتوية التي لا يقدر على فك طلاسمها إلا مترجم محلف أو حفيد ديكارت. تذهب إلى مكتب الترجمة، فيخبرونها أن الصفحة بمائة وعشرين درهمًا، أي ما يعادل نصف العربة التي كانت تحلم بها. هل هذه دولة مستقلة؟ هل هذا نظام مصرفي أم مقهى فخم في باريس القديمة؟ زهرة تطلب قرضًا من مغربي لمغربية، فوق تراب مغربي، ويأتي الجواب بلغة المستعمر. هل هناك عبث أكثر صفاقة من هذا؟

أما أيوب الشاب المقاول، الذي اشتغل لأسابيع ليُحضّر أفضل عرض تقني ومالي، فصُدم حين وجد كل وثائق الصفقة بـ"الفغونسي"، من "كاهيي دي شغج" إلى "كونفنسيون دو بغجي". بل حتى البوابة الإلكترونية تتطلب منه إدخال "نوم دو لانتربغيز"، وليس "اسم المقاولة". الرجل لديه أفضل عرض، وأفضل ثمن، لكن لجنة الانتقاء تهتم أكثر بعدد "الفاصلات" و"الأكسونات" في خطابه من محتوى عرضه. هل هذه إدارة عمومية أم امتحان ولوج السوربون؟

ثم خديجة، تلك الفتاة التي كانت تتفوق في علوم الحياة والأرض. تحب الجينات والخلايا والبيولوجيا الجزيئية. لكنهم درّسوها "الميتوز" و"الميوز" بالفاونسي، دون أن يشرحوا لها ما تعني "لاديڤيزيون سيلوليغ". دخلت الجامعة، فوجدت نفسها تحارب ليس الجهل بل اللغة. تركت حلمها، لا لأن الدماغ ضعيف، بل لأن قناة التواصل مع العلم مسدودة بلغة لا تفهمها. التحقت بشعبة الآداب العربية، ليس حبًا في سيبويه، بل هربًا من طغيان لغة فولتير، لأنها "تشربت" البيولوجيا من خلال لغة لا تميز فيها بين "خلية" و"خليّة نحل". قررت بكل حكمة أن توفّر على نفسها جلسات العذاب الجامعي، وتنسحب بهدوء من حلمها العلمي… ليس لأن البيولوجيا صعبة، بل لأن الفرنسية أصعب!

في المغرب، تصبح الفرنسية ليست مجرد لغة، بل شرطًا وجوديًا. من لا يتقنها، لا يستحق قرضًا، ولا صفقة عمومية، ولا دراسة محترمة. كأنك بدون الفرنسية مواطن ناقص المواطنة. في كل دول العالم، اللغة الأجنبية امتياز، إلا عندنا، تصبح لعنة تطاردك من المدرسة إلى لائحة الطعام عند سناك عبد الواحد الشينوي. والشقي الذي لا يتقنها يُعتبر ناقص أهلية، يحرجونه في الإدارات، ويقصونه من الجامعات، ولا يستطيع حتى الحضور إلى الجمع العام لسانديك عمارته.

المدارس الخاصة لا تُقدّم تعليمًا متفوقًا، ولا برامج مبتكرة. كل ما تملكه هو "نڤو مزيان فالفغونسي". الأهل يدفعون دم قلوبهم فقط لكي يحفظ ابنهم معنى "لشيفغ دو موسيو سوڤان"، وليس معنى الوطن أو التاريخ. أما الجامعات، فتضيع سنوات الطلبة في الترجمة بدل التحصيل. الطالب يقضي أول سنتين وهو يترجم "كوري دي لو" إلى "قانون الماء"، و"جيستيون دي بغوجي" إلى "تدبير المشاريع"، و"تيكنيك دي نڤوسياسيون" إلى "مهارات التفاوض"، ثم يتخرج دون أن يتقن لا اللغة ولا التخصص.

ولعلّ أكثر مشاهد هذا العبث إثارة للشفقة – والضحك المرّ – هو عبد النبي، الذي وُلد في حي شعبي، لا يعرف من الفرنسية سوى ما سمعه في تلفاز جدّه، ثم فجأة، يجد نفسه مطالبًا في امتحان العلوم بالسنة الثانية إعدادي بفهم عبارة مثل: «Les particules de la boîte flottent dans l’eau». ولأن لا أحد في البيت يعرف إن كانت هذه الجملة تحكي عن خشب أم عن نملة تسبح! وهكذا، تنقلب العلوم إلى سريالية نحوية، وتتحول الفيزياء إلى مباراة في قراءة الطلاسم، فيقرر الطفل – بعد طول معاناة – أن يدرس شيئًا آخر في الجامعة… أي شيء، فقط لكيلا يُطلب منه مرة أخرى تحليل جملة بلغة لا يفهمها. أو، في أحسن الأحوال، يُكمل دراسته في تخصص لا يفقه منه سوى 10% من المعرفة، ويُمنح شهادة في علمٍ لم يتعلّم منه إلا العناوين... مترجمة على غوغل. هذا النوع من "الفرنسة القروية" لا يدل على إتقان، بل على هشاشة لغوية مزدوجة: لا العربية سليمة، ولا الفرنسية مفهومة. فقط خلطة مربكة تجعل المتعلّم لا يعرف إن كان في درس ميكانيك… أم في عرض كوميدي.

ثم تأتي المهزلة الكبرى: يوسف، ابن حي راقٍ، يدخل "لاميسيون" منذ أول حروف الأبجدية. هناك، لا يُعامل كمغربي، ولا كفرنسي. لا هو من أبناء الوطن، ولا هو ابن الحاضرة الباريسية. كائن "نصف–نصف"، لا يعرف عن تاريخه شيئًا، ولا يفهم نشيد بلاده، ولا يعرف من ثقافته إلا "كسكس" يوم الجمعة إن وافق جدول "الكنتيين". في المدرسة، يتقن الحديث عن الثورة الفرنسية أكثر من معركة وادي المخازن، ويقرأ موليير ولا يعرف من هو المختار السوسي. لكن المشهد الأجمل: اسمه كريم، أو سعد، أو مهدي، ومع ذلك لا يستطيع فتح نقاش مع صاحب محل البقالة، ولا مشاركة مباراة كرة القدم مع السباك. لغته هجينة، "فرنسية محطّمة" لا تُفهم في باريس، ودارجة مشوّهة لا تُفهم في درب السلطان. النتيجة؟ أوراقه مغربية (أو فرنسية إن حالفه الحظ)، لكن انتماءه... مفقود. هو دراما شكسبيرية من طراز نادر: مواطن بلا وطن، ابن بلد لا يعرفه، بلسان لا يُشبهه، وتاريخ لم يقرأه.

فأيُّ عبثٍ لغويٍّ هذا الذي يجعل "زهرة" تُقرض بلغة لا تفهمها، و"خديجة" تهجر حلمها لأن العلم صار يُدرَّس بلسان المستعمر، و"عبد النبي" يُمتحَن بجمل أقرب للطلاسم منها إلى المفاهيم، و"أيوب" يُقصى من صفقة لأنه لا يفرّق بين "كونفنسيون دو بغجي" و"كاهيي دي شاغج"، و"يوسف" ابن "الميسيون"، ذاك الذي لا يعرف من المغرب إلا عطلة الصيف، لا يفهم نشيد الوطن، لكنه يتقن "لا مارسييز" ويرددها من دون لحنٍ خاطئ. يوسف، المغربي بالبطاقة فقط، الفرنسي بالهوى واللغة، لا يستطيع التواصل مع بائع الخبز في الحي دون أن يستعين بترجمة ذهنية سريعة.

أيُّ وطنٍ هذا الذي لا يجمع أبناءه سوى خضرة جواز السفر، بينما لغة الدولة ليست لسان أمهم، بل لسان "مدام دوبون"؟ كيف يُبنى مستقبل أمةٍ حين لا تُقاس الكفاءة بقدرتك على البرمجة، بل على نطق كلمة "برُغراماسْيون" بنغمة باريسية في مقابلة العمل؟ هذه ليست سياسة لغوية، بل منظومة إذلال ناعمة، تُقصي من لا يتقن لغة الاحتلال، وتُقدّس من يحفظ قاموس الاستعمار عن ظهر قلب. إنها منظومة، يتحدد مصيرك فيها لا بحسب كفاءتك، بل بحسب قدرتك على اجتياز اختبار النطق. هذه سادية رمزية تُمارس على شعبٍ كامل باسم "الانفتاح"، تُشرعن الإقصاء، وتطبع الاستلاب، وتحرم أبناء الوطن من أبسط حقوقهم: أن يتعاملوا في بلدهم بلغتهم... لا بلغة جلّادهم.

 

نبيل عادل، أستاذ باحث في الاقتصاد والعلاقات الدولية
  عضو المجلس الوطني للحركة الشعبية