Wednesday 21 May 2025
كتاب الرأي

سعيد يقطين: «احنا المغاربة».. الهوية الجامعة

سعيد يقطين: «احنا المغاربة».. الهوية الجامعة  سعيد يقطين
 سألت نفسي مرة: من أنا؟ فكان الجواب الذي انتهيت إليه مع مرور الزمن: لست ما وجدتني عليه، ولكن ما أريد أن أكونه؟ بين كنت، ومن أنا؟ هنا والآن، وما أريد أن أكون، فتلك هي الهوية المفتوحة. مع مرور الزمن كانت تتشكل طبقات من الهويات تتجاور في داخلي، دون أن تنغلق على ذاتها، أو تلغي غيرها.

أتحيَّر على جيلالة، وأُحضِّر على السواكن، وأرقص على العيطة. أدوِّح برأسي، وأنا أقلب يدي الممدودتين تحت رأسي، أو المشدودتين وراء ظهري، وأتفاعل كثيرا مع نقرات لوتار، وجرات كمنجة الأطلس، وأنا لا أفهم تمازيغت. وأُميل بجذعي، يمينا ويسارا، عند سماع التلاوات القرآنية الشجية. «الحال» هو ما يسم «حالي»، مهما كانت الأحوال والأهوال.
 
من كانت ملاعب صباه حلاقي اشطيبة، وتسكعه الدائم في سوق الكلب، وكريان الزيزون في حزام الفقر الشديد في الدار البيضاء، وفتح عينيه على بائعات الخبز، والخياطات في السوق والحلاقي، التي لا يشاهد فيها سوى القرادين، وحواة الأفاعي، وروايس سوس، وشقلبات أولاد سيدي احماد وموسى، وشيوخ العيطة، وحضرة جيلالة، ويستمتع بسماع نوادر زروال، ومتابعة السير الشعبية مع الراوي عمر العيار، لا يمكنه إلا أن يكون واحدا ممن يتشبع بأجواء عالم بيضاوي جمع المغرب من أقصاه إلى أدناه. ألم تقل الشيخة: «لله يا البيضا/ حاشا ما تخيب/ باريس المغرب؟». كانت الهجرات متعددة من كل نواحي المغرب إلى الدار البيضاء، التي صارت أحياؤها فضاءات تجمع المغاربة من كل حدب وصوب. كان التعاطف والتسامح الجماعي هو ما يوحد بينهم. وكان «التراضع» أهمَّ مقوماته، فصارت لي عدة أمهات. أرضعتني الشلحة السوسية أمي يامنة مع ابنها علي، والرحمانية أمي محجوبة مع ولدها الجيلالي، والصحراوية أمي فاضمة، وصار لحسن أخي. وكانت أمي ترضع بالمقابل أولاد الشلحة والصحراوية والعروبية، وسواهن. وكان الإرضاع لمن لها بنت، أن ترضع بنتا. ومن لها ولد أن تفعل فعلها، أملا في التآخي، والتزاوج، ودرءا للزواج من أخت الرضاعة. كان التفكير في المستقبل الجماعي قيد الحلم والمحبة والأمل.
 
حين كانت أمي رحمها الله تراني ألمّ وأطمّ، وأنظم أشيائي، وأرتبها كي لا تطالها يد عابثة، وأجمع وأمنع، وأقتصد في كل شيء، صارّا الريال على الريال، تعلق: أليست أمه يامنة الشلحة؟ وحين أغضب غضبة مُضَرية، أو أناقش بعنف وشدة تقول: إن أمه صحراويةǃ أما حين أغني وأرقص طربا، فلا يجد خالي بوشعيب بُدّا من قول: «إنه ولد العلوة». لم تكن هذه الأخوة من الرضاعة تمنعنا، ونحن نلعب أو نتشاكس من أن يسب بعضننا بعضا بالعروبي، أو الشلح، أو الدراوي، أو بالتشوهات الخلقية: الأعور، المعمش، الأعرج، اكَعيَّة (الأحدب). كان قصر القامة، وطول الرأس أو تضخمه أو عدم اتساق جوانبه، أو العمش، والقرع، والعرج، بادية على السحنات، وكان سوء التغذية باديا على ملامح الجميع. فكانت توحي لنا بتعيير أصحابها بها، مهما كانت الأصول والأعراق واللغات. وكان ما يجمعنا أكثر مما يفرق بيننا: التسكع في الأسواق والحلاقي، وحب الثقافة الشعبية التي تجمعنا، رغم تباين الأصول والفروع، والبحث عن رغيف خبز كارم، أو برتقالة ضائعة وسط السوق.
 
كان الاحتفال بعيد العرش في أواخر الستينيات مناسبة تجمعنا. كان عيدا وطنيا حقيقيا، لا يقل أهمية عن العيد الصغير أو الكبير. وكما كنا نضحي بالكبش في عيد الأضحى، كان الاحتفال بعيد العرش بالديك الرومي. ولقد نظم الفقيه ولد قربال المذكوري قصيدة شعبية سماها: «ما وقع للرجل مع زوجته في عيد الأضحى، وبيبي عيد العرش». كان الاستعداد لعيد العرش يتم تلقائيا في كل الأحياء الشعبية. تقام المنصات في كل الفضاءات والساحات، وفي دار الخليفة (المقاطعة) وفي لاجونيس (دار الشباب)، وبين كريان الزيزون وكريان سيدي محمد، وكريان الحفرة القريبين من درب ميلا والقشاشة. كانت تستقدم الفرق الفولكلورية الشعبية من مختلف الأقاليم والمناطق المغربية: تسحرنا الألبسة التقليدية، والأدوات الموسيقية المختلفة، واللغات التي تصدح بها حناجر المغاربة في المناطق النائية والمعزولة. تثيرني الرزات على الرؤوس، والخناجر الفضية المتدلية من الحزام، وملابس النساء المزركشة بالألوان الزاهية والمتعددة. شلوح وعرب وصحراوة، وكَناوة، ألوان متعددة، ولغات متنوعة، ورقصات رجالية ونسائية ومختلطة عفوية ومنظمة ودقيقة، بشكل لا يمكن أن يعلم في المعاهد أو المدارس، إلى جانب الفرق شبه «الغجرية» بألبستها الغريبة، وشعورها الطويلة المنفوشة: هداوة وحمداشة وعيساوة وأولاد بويا رحال، وهم يعزفون وصلات غريبة على إيقاعات الدربوكات الكبيرة المسندة على الأكتاف، وشرب الماء الساخن، وابتلاع الزجاج والأشواك، واللعب بالأفاعي، وضرب الأيادي بالسكاكين، وإدخال المخاييط في الألسنة والأحناك. أليس هذا هو المغرب الواحد المتعدد؟
 
بدأت أربط بين الوصلات الفولكلورية ومناطقها البعيدة، حين يصرح كل واحد منا نحن الأطفال بربط الفرقة باسم «بلاد» والديه، فبينت لي هذه المناسبة أنني أنتمي إلى بلد أعم من الدار البيضاء. وأن ما يجمعني بهم ليس فقط هذا الحي، ولكن وطن يتسع لنا جميعا. هذا الوطن الغني بتاريخه وتراثه وتنوعه وتعدد أجناسه ولغاته، وظلت تتأكد لي هذه الهوية الجامعة: «احنا لمغاربة» التي تتسع للجميع، وتتعالى على أي هوية ضيقة آسرة. من كان أسير هويته، ويريد فرضها على غيره، يدل على افتقاده أي هوية، وحين يفتش عنها ليثبتها يهدف لإلغاء هوية الآخر.
 سعيد يقطين، كاتب مغربي