الاثنين 10 مارس 2025
كتاب الرأي

يوسف حميتو: استقرار الفقه.. منهجية ضائعة أم وهم تاريخي؟

يوسف حميتو: استقرار الفقه.. منهجية ضائعة أم وهم تاريخي؟ د يوسف حميتو

نشأ الفقه الإسلامي ليكون ميزانًا ضابطًا للحياة في متغيراتها ومساراتها المتشعبة، ولم يكن يومًا علمًا راكدًا ولا نصوصًا جامدة، بل كان دائم الحركة، يتفاعل مع الواقع ويعيد تشكيل أدواته وفقًا لما تستلزمه الوقائع المستجدة. ومع ذلك، حين ننظر إلى الفقه المعاصر، نجده واقعًا بين مأزقين متداخلين: فمن جهة، يجد نفسه أمام مستجدات لم تكن معهودة في الأزمنة الماضية، ومن جهة أخرى، يفتقد البنية المنهجية الصلبة التي كانت تُمكّنه من احتواء هذه المستجدات دون أن يفقد تماسكه. فهل المشكلة الحقيقية تكمن في تسارع المتغيرات وكثرتها، أم أن الأزمة أعمق، متجذرة في انهيار الاستقرار الذي كان يمنح الفقه قدرته على التعاطي مع تلك المتغيرات بفعالية؟

من السهل أن نُرجع الأزمة إلى طوفان المستجدات التي تحيط بالفقه من كل جانب، فهذه المستجدات أصبحت ظواهر كبرى تمسّ بنية الحياة الإنسانية ذاتها، وليست مجرد مسائل جزئية يمكن النظر فيها بمعزل عن الإطار العام، والتحولات الاقتصادية باتت منظومة مالية قائمة على نظريات جديدة بالكامل تختلف تماما عن نمط المعاملات التقليدية، كتسليع العملات، والمشتقات المالية، والاقتصاد الرقمي. وتجاوزت المستجدات الاجتماعية اختلاف الأعراف والتقاليد، إلى تحولات جذرية في مفهوم الأسرة، والهوية، والعلاقات الإنسانية. كما أن التطورات التقنية والبيولوجية تعدت كونها وسائل العيش وترفيه، وباتت تغير ماهية الإنسان نفسه من خلال التعديل الجيني، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من القضايا التي لم تخطر في أذهان الفقهاء السابقين.

لكن، إذا كانت كثرة المستجدات وحدها كافية لإحداث أزمة في الفقه، فكيف نفسّر قدرة الفقه على التعامل مع تحولات كبرى في مراحل سابقة؟ لقد واجه الفقه الإسلامي تغيرات ضخمة عبر التاريخ، كدخول المجتمعات غير الإسلامية في دار الإسلام، وظهور المدارس الفكرية المختلفة، والتحولات السياسية الكبرى، والتطورات الاقتصادية التي لم تكن معروفة في العصر النبوي، ومع ذلك كان قادرًا على الاستجابة لهذه المتغيرات، بل إنه ازدهر في كثير من هذه اللحظات المفصلية، حيث أنتج نظريات فقهية متماسكة مكنته من إعادة تشكيل أحكامه بما يتناسب مع الواقع، دون أن يفقد صلابته المنهجية. فهل يمكننا إذن أن نقول إن المشكلة ليست في المستجدات ذاتها، وإنما في كيفية تعامل الفقه معها؟

إنّ هذا السؤال يقودنا إلى الوجه الآخر للمسألة، وهو فقدان الاستقرار المنهجي للفقه. لكن ما المقصود هنا بالاستقرار؟ هل نعني به استقرار الأحكام الفقهية نفسها، أم استقرار البنية الأصولية التي يقوم عليها الفقه؟ من الواضح أن استقرار الأحكام لم يكن يومًا سمة مطلقة للفقه، فهو علم يقوم على الاجتهاد، ويتغير بتغير مناطاته، ويتفاعل مع ظروف الزمان والمكان. لكن ما كان مستقرًا عبر العصور هو المنهجية الفقهية، أي الإطار الذي يضبط عملية الاجتهاد، ويوجه الفقيه في استنباطه للأحكام. كان هناك نظام معرفي واضح يحكم الاجتهاد، سواء في قواعد الأصول، أو في التراتبية التي تحكم مصادر التشريع، أو في الأدوات الاجتهادية التي تضبط العلاقة بين النصوص والواقع.

هذا الاستقرار المنهجي كان هو العنصر الذي منح الفقه قدرته على الاستيعاب، إذ لم يكن الفقيه حين يواجه نازلة جديدة يبدأ من الصفر، بل كان يتحرك داخل إطار أصولي محدد، ينطلق من النصوص، ويفعّل أدوات القياس والاستدلال، ويستدعي المقاصد الشرعية، وينظر إلى المصالح والمفاسد، ويوازن بين الأصول والفروع. ولكن عندما تآكل هذا الاستقرار، لم يعد الفقه قادرًا على التعامل مع المستجدات بنفس الكفاءة، لأن المستجدات لم تعد تواجه نظامًا فقهيًا متماسكًا، بل أصبحت تُقابل بردود فعل متباينة، واجتهادات فردية، وفتاوى متناثرة، لا يجمعها منهج واضح، مما جعل الفقه يبدو وكأنه مرتبك أمام التغيرات المعاصرة.

من هنا، تتجلى الإشكالية في تفاعل هذين العاملين: فقدان الاستقرار المنهجي الذي جعل المستجدات تبدو وكأنها تهديد للفقه، والمستجدات المتسارعة التي بدورها كشفت ضعف المنظومة الفقهية الحالية، وأبرزت الحاجة إلى إعادة بناء الإطار الذي يحكم عملية الاجتهاد. فلم تعد المشكلة في كثرة القضايا المستجدة بحد ذاتها، وإنما في أن هذه القضايا تُطرح في سياق فقهي مضطرب، يفتقد إلى وحدة المنهج، ويعاني من غياب المرجعية الاجتهادية الجامعة.

وبناءً على ذلك، فإن الحل لا يكمن في الاكتفاء بملاحقة المستجدات؛ لأن ذلك يعني أن الفقه سيكون في حالة "لهاث دائم" يفقد فيها هويته الأصلية، ولا يكمن أيضًا في محاولة استعادة الاستقرار بنفس صيغته التاريخية؛ لأن الاستقرار الفقهي لم يكن يومًا حالة ثابتة، بل كان دائم التكيف مع العصر. الحل الحقيقي يكمن في إعادة بناء منهجية الاستقرار الفقهي لا استعادة نتائجه الماضية، أي أن الفقه بحاجة إلى أن يستعيد أدواته الاجتهادية في ضوء التغيرات الحديثة، بحيث يكون قادرًا على التعامل مع المستجدات بمرونة دون أن يفقد انسجامه الداخلي.

هذا يعني أننا بحاجة إلى إعادة صياغة السؤال من أساسه: فلا ينبغي أن يكون السؤال "هل الأزمة في كثرة المستجدات أم في فقدان الاستقرار؟"، بل يجب أن يكون "كيف يمكن إعادة بناء الفقه بحيث يكون قادرًا على استيعاب المستجدات، دون أن يفقد استقراره المنهجي؟".

إنّ الفقه في حاجة إلى استعادة "بوصلة الاجتهاد"، بحيث يتمكن من التفاعل مع الواقع وفق رؤية شمولية تجمع بين المرونة والانضباط، وتعيد ضبط العلاقة بين الأصول والفروع، وبين النصوص والمقاصد، وبين القواعد الكلية والتفاصيل الجزئية. وبهذا الفهم، نخرج من الثنائية المغلقة التي تحصر الأزمة بين المستجدات والاستقرار إلى رؤية أكثر تركيبًا، تجعل الفقه الإسلامي قادرًا على استعادة دوره الحضاري، بحيث يكون إلى جانب وصفه مفسّرا للواقع، أداة لإعادة تشكيل الواقع وفق مبادئ الشريعة.

 

إعادة بناء المنهجية الفقهية: من وهم الاستقرار إلى الاستقرار المنهجي

إذا كان الفقه الإسلامي يواجه اليوم مأزقًا معرفيًا يتجلى في اضطراب المرجعية الاجتهادية وتباين مسارات الاستدلال، فإن جوهر هذا المأزق لا يكمن في كثرة المستجدات فحسب، ولا في تعقيد الواقع وحده، بل في الأساس المعرفي الذي يحكم علاقة الفقه بالمتغيرات. لكن الحديث عن الاستقرار الفقهي قد يكون حديثًا ملتبسًا؛ لأنه يخلط بين أنماط مختلفة من الاستقرار، ويفترض ضمنًا أن الفقه كان يومًا ما في حالة من الثبات المطلق، ثم تعرض لاحقًا لاهتزاز غير مسبوق. هذا التصور وإن كان متداولًا في الخطاب الفقهي المعاصر، إلا أنه يعاني من إشكال إبستمولوجي جوهري، لأنه يقوم على فرضية أن الاستقرار كان سببًا في فاعلية الفقه، وأن فقدانه هو الذي أضعف دوره في العصر الحاضر.

يثبت الفحص التاريخي الدقيق لمسار الفقه الإسلامي أن هذا التصور ليس سوى وهم الاستقرار، أي ذلك التصور الذي يرى أن الفقه لم يكن متغيرًا عبر العصور، وأنه كلما كان مستقرًا كان أكثر قدرة على التأثير، بينما الحقيقة أن الفقه لم يكن قويًا في أي مرحلة بسبب ثباته، بل بسبب مرونته المنهجية المنضبطة، وقدرته على إعادة تشكيل أدواته الاجتهادية بما يضمن له التكيف مع الواقع دون أن يفقد صلابته الأصولية. فالفقه كان دائم الحركة، متكيفًا مع الظروف التاريخية، ولكنه كان محكومًا دائمًا بمنطق داخلي يضمن له الانسجام والاستمرارية.

وفي ضوء هذا الفهم، يصبح السؤال الصحيح ليس: "كيف نعيد الفقه إلى استقراره السابق؟"، بل: "ما طبيعة الاستقرار الذي يحتاجه الفقه اليوم ليستعيد توازنه المنهجي؟"، وهل هذا الاستقرار يعني تثبيت الأحكام، أم إعادة بناء المرجعية الاجتهادية بطريقة تجعلها أكثر قدرة على التعامل مع الواقع الجديد؟

 

التمييز بين أنماط الاستقرار: نحو تجاوز القراءات الاختزالية

إن أول ما ينبغي توضيحه في هذا السياق هو التمييز بين الاستقرار التاريخي، والاستقرار النسبي، والاستقرار المنهجي، إذ الخلط بين هذه المفاهيم يجعل النقاش حول أزمة الفقه اليوم يدور في دائرة مفرغة، حيث يُنظر إلى المشكلة وكأنها فقدان لاستقرار سابق، دون أن يُطرح السؤال عن طبيعة هذا الاستقرار نفسه.

الاستقرار التاريخي هو ذلك التصور الذي يرى أن الفقه كان يومًا ما أكثر قدرة على الاستجابة للنوازل، وأنه مع مرور الزمن بدأ يفقد هذه الخاصية، مما أدى إلى حالة من التباين الاجتهادي الذي نعيشه اليوم. لكن هذا الفهم يفترض ضمنًا أن الفقه كان يعمل في سياقات تاريخية ثابتة، بينما الحقيقة أنه كان دائم التكيف مع الأزمنة التي مر بها، ولم يكن استقراره ناتجًا عن جمود أحكامه، بل عن وضوح منهجيته الأصولية.

أما الاستقرار النسبي، فهو الذي يشير إلى أن الفقه في بعض مراحله التاريخية كان يعمل وفق أنظمة اجتهادية واضحة، بحيث لم تكن الفتاوى تصدر بشكل متناقض، ولم يكن الاجتهاد ينحرف عن قواعده الأصولية. وهذا النوع من الاستقرار هو الذي جعل الفقه قادرًا على الاستجابة للمستجدات دون أن يتحول إلى حالة من الفوضى الفقهية.

وأما الاستقرار المنهجي، فهو الأهم، لأنه يعني أن الفقه لا يحتاج إلى استقرار في نتائجه بقدر ما يحتاج إلى استقرار في طريقة تفكيره، ومنهجيته في الاستدلال، وبنيته المعرفية. وهذا هو النوع الذي نفتقده اليوم، لأن الفقه المعاصر وإن كان لا يزال يمتلك أدواته التقليدية، إلا أنه فقد إلى حد كبير الوحدة المنهجية التي كانت تضبط عملية الاجتهاد، وتضمن له التماسك الداخلي.

 

التحول من وهم الاستقرار إلى بناء الاستقرار المنهجي

إذا كنا قد بيّنا أن الفقه لم يكن يومًا في حالة استقرار مطلق، فإن المطلوب اليوم ليس محاولة استعادة هذا الوهم، المطلوب بناء استقرار جديد يقوم على أسس معرفية تضمن للفقه استمراريته وفاعليته في العصر الحاضر. وهذا يتطلب إعادة النظر في عنصرين جوهريين:

  1. إعادة ضبط المرجعية الاجتهادية بحيث لا يكون الاجتهاد عملية فردية معزولة، بل يكون محكومًا بإطار مؤسسي ومنهجي يضمن الاتساق في الاستدلال، والتكامل بين الأصول والفروع.
  2. إعادة تفعيل أصول الفقه ليس بوصفها علمًا نظريًا، بل كأداة عملية لتوجيه الاجتهادات الفعلية، بحيث تعود القواعد الأصولية إلى دورها كميزان منهجي، لا مجرد منظومة نظرية منفصلة عن الواقع.

حتما، إن الفقه الإسلامي لا يواجه اليوم مشكلة في موارده النصية، ولا في أدواته الأصولية، مشكلته في كيفية تفعيل هذه الأدوات بطريقة تجعلها أكثر قدرة على التعامل مع المستجدات، دون أن تفقد صلتها بجذور الفقه ومنهجيته التاريخية. وهذا يعني أن استقرار الفقه لا يكون بتقييد الاجتهاد، وإنما يكون بإعادة بناء آليات ضبطه، بحيث لا يكون الاجتهاد مجرد اجتهادات فردية معزولة، بل يكون فقها ونظرا جماعيًا مؤسسيًا يعمل وفق منهجية واضحة ومنضبطة.

إن البديل عن الاستقرار التاريخي الذي يسعى البعض إلى استعادته، وعن الفوضى الاجتهادية التي يريد البعض الآخر فرضها، هو بناء استقرار ديناميكي، أي أن يكون للفقه إطار واضح يحكم عملية الاجتهاد، لكنه في نفس الوقت لا يكون إطارًا جامدًا يمنع التجديد، بل يكون قادرًا على استيعاب التحولات، ضمن رؤية معرفية منضبطة. وهذا يعني أن الفقه لا يحتاج اليوم إلى "إصلاح جذري" بمعنى القطيعة، كما أنه لا يحتاج إلى إعادة إنتاج التقليد، حاجة الفقه إلى إعادة تشغيل أدواته الأصولية، بحيث تعود إلى دورها في ضبط الاجتهاد المعاصر دون أن تعيقه.

 

إشكالية تجديد أصول الفقه والخطاب الديني: من وهم الحداثة إلى تحديات ما بعد الإنسانية

إذا كان الفكر الإنساني قد تجاوز اليوم أطروحات الحداثة الكلاسيكية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: هل لا تزال مشاريع تجديد أصول الفقه والخطاب الديني عالقة في استجاباتها للحداثة، رغم أن الحداثة ذاتها لم تعد النموذج المهيمن؟ وهل يمكن لفقه لم يستطع حتى الآن حسم علاقته بالحداثة أن يكون مؤهلًا للتعامل مع التحولات الأعمق التي تطرحها الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وإشكالات ما بعد الإنسانية؟

إن ما يثير القلق في كثير من مشاريع التجديد الفقهي المعاصرة ليس فقط ضعف رؤيتها المنهجية، أو عدم تقديمها لمشروع متماسك، بل لأنها تُعالج أزمة الفقه بمنطقٍ ينتمي إلى مرحلة فكرية انتهت بالفعل. فما زالت هذه المشاريع مشغولة بكيفية "عقلنة الفقه" وفق النموذج الحداثي، أو "دمجه في المنظومات القانونية الحديثة"، بينما الفكر الغربي نفسه لم يعد يؤمن بهذه المرجعيات التقليدية، وانتقل إلى مستويات أكثر تعقيدًا في التعامل مع المعرفة، والهوية، والقانون، والأخلاق.

إن التجديد الذي يستند إلى خطاب الحداثة المتأخرة، بدلًا من أن يكون استشرافًا للمستقبل، يصبح استجابة متأخرة لعالم لم يعد موجودًا. والأسوأ من ذلك، أن هذه المشاريع لا تلتفت إلى التحديات الفعلية التي تفرضها تحولات "ما بعد الإنسانية" (Post-Humanism)، حيث لم تعد الأسئلة الكبرى تتعلق فقط بكيف يحكم الإنسان نفسه؟ بل بمفهوم الإنسان ذاته، ومعايير الأخلاق، وحدود القيم، وإمكانية إعادة تعريف الحياة، والهوية، والسلطة، والمعرفة.

 

ما بعد الحداثة وما بعد الإنسانية: هل يدرك دعاة التجديد التحولات العميقة؟

لقد قامت الحداثة على عدة يقينيات معرفية، أهمها أن الإنسان هو المركز، وأن العقل قادر على إنتاج المعرفة الموضوعية، وأن التقدم العلمي والتكنولوجي سيؤدي إلى مجتمعات أكثر تنظيمًا وإنسانية. غير أن ما بعد الحداثة جاءت لتفكك هذه اليقينيات، فأسقطت السرديات الكبرى، وشككت في قدرة العقل على إنتاج الحقيقة المطلقة، ورفضت مفهوم المركزية الإنسانية، مما فتح المجال أمام تحولات أكثر جذرية، تمثلت في بروز خطاب ما بعد الإنسانية، الذي لم يعد يعتبر الإنسان معيارًا مطلقًا للمعرفة والقيم، بل أصبح يرى أن الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والهندسة الجينية، قادرة على خلق كيانات تتجاوز حدود الإنسان البيولوجية والفكرية.

إن هذه التحولات لم تعد مجرد قضايا فلسفية نظرية، بل أصبحت واقعًا تشريعيًا وقانونيًا وأخلاقيًا يفرض نفسه على المجتمعات، ويتطلب استجابات فقهية أكثر عمقًا ودقة.

لكن المدهش أن أغلب دعاة تجديد الفقه اليوم لا يزالون عالقين في أسئلة الحداثة، ولا يدركون أن العالم الذي يريدون أن يجعلوا الفقه متكيفًا معه لم يعد موجودًا أصلاً، بل استُبدل بعالم جديد أكثر تعقيدًا، يحتاج إلى رؤية اجتهادية تتجاوز مجرد تكييف الفقه مع القوانين الوضعية، إلى البحث في أسئلة أكثر خطورة مثل: هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي "ذاتًا قانونية" لها حقوق وواجبات؟ هل يجوز التعديل الجيني على الأجنة البشرية؟ ما هو الموقف الفقهي من عمليات تحميل الوعي البشري إلى أنظمة رقمية؟ كيف يعيد الاقتصاد الرقمي صياغة مفهوم المال والملكية في الفقه الإسلامي؟

 

إشكالية التشخيص القاصر: بين الأزمة التراكمية والأزمة البنيوية

إن الخطأ المنهجي الأكبر في مشاريع تجديد الفقه اليوم هو افتراض أن الفقه يعاني فقط من أزمة تراكمية، أي أنه تأخر في مواكبة المستجدات، لكنه قادر على استدراك ذلك بمجرد إصدار اجتهادات جديدة. غير أن هذا التشخيص غير كافٍ، لأن الأزمة الحقيقية بنيوية أيضًا، أي أن الفقه لم يعد فقط متأخرًا عن الواقع، بل إن أدواته نفسها لم تعد تُستخدم بشكل منسجم، مما جعله يفقد مرجعيته الاجتهادية الواضحة.

- الأزمة التراكمية جعلت الفقه يتعامل مع المستجدات وكأنها صدمات غير متوقعة، بدل أن يكون قادرًا على استباقها عبر منهجيات استشرافية متماسكة.

- الأزمة البنيوية جعلت الفقه، حتى حين يحاول مواكبة العصر، يقدم اجتهادات متفرقة، لا تحكمها رؤية منهجية موحدة، مما أدى إلى تضارب الفتاوى، وغياب الاتساق في القواعد الاستدلالية.

وبينما يظن كثير من دعاة التجديد أن المشكلة يمكن حلها بإنتاج اجتهادات جديدة، فإن الحقيقة أن الاجتهادات الجديدة لن تكون ذات معنى إذا لم تكن منضبطة بأصول تضمن انسجامها مع البناء الفقهي العام.

 

إشكالية تجاهل السياقات التنزيلية: الفقه بين النظرية والتطبيق

الفقه ليس علمًا نظريًا محضًا، بل هو علم تنزيل، أي أن قيمته لا تكمن فقط في وجود قواعد أصولية، بل في كيفية تفعيل هذه القواعد داخل الواقع. غير أن كثيرًا من مشاريع التجديد لا تدرك هذه الحقيقة، بل تتعامل مع الفقه وكأنه بناء نظري منفصل عن التطبيق، مما يجعل الحلول التي تقدمها غير قابلة للتنفيذ في الواقع التشريعي والاجتماعي.

- فإذا قيل إن "الفقه لم يعد قادرًا على التعامل مع النوازل الحديثة"، فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: هل المشكلة في الفقه نفسه، أم في ضعف آليات استثماره في الواقع؟

- وإذا قيل إن "الاجتهاد يجب أن يُحرَّر من قيود الأصول التقليدية"، فإن السؤال الذي يجب أن يكون حاضرًا هو: ما طبيعة هذه القيود؟ وهل هي قيود معرفية، أم أن المشكلة تكمن في عدم تطوير أدوات استثمارها؟

إن غياب الوعي بالسياقات التنزيلية يجعل أي محاولة لتطوير الفقه مجرد إعادة صياغة نظرية، دون أن تكون قادرة على الاشتغال داخل البيئات التشريعية والاجتماعية الفعلية.

 

كيف نعيد بناء الفقه في عصر ما بعد الإنسانية؟

إذا كنا قد بيّنا أن الفقه لم يستطع حتى الآن حسم علاقته بالحداثة، فكيف يمكنه أن يكون مؤهلًا للتعامل مع عالم ما بعد الإنسانية، حيث لم تعد القوانين تتحدث عن حقوق الإنسان فقط، بل عن حقوق "الكيانات غير البشرية"؟ ولم تعد الأسئلة تدور حول كيف نطبق الشريعة في الدولة الحديثة؟ بل حول ما هو تعريف الإنسان نفسه، وما معنى القيم الأخلاقية في عالم تحكمه الخوارزميات؟

- المطلوب اليوم ليس فقط "تحديث الفقه"، بل إعادة ضبط مرجعيته الاستدلالية بحيث تكون قادرة على التعامل مع الأسئلة الجديدة، دون أن تفقد ثوابتها في تحديد القيم والمعايير الحاكمة.

- لا يمكن للفقه أن يظل منشغلًا فقط بأسئلة الحداثة، بل يجب أن يبدأ في إنتاج خطاب اجتهادي يشتبك مباشرة مع الأسئلة الجديدة التي تطرحها الثورة الرقمية والتحولات البيولوجية والذكاء الاصطناعي.
- الفقه بحاجة إلى تجاوز الجدل التقليدي حول العلاقة بين الدين والقانون، لينتقل إلى مستوى إنتاج رؤية فقهية قادرة على استيعاب أبعاد ما بعد الإنسانية، وما بعد الدولة، وما بعد المركزية التشريعية التقليدية.

 

خاتمة: بين استقرار الوهم واستقرار المنهج

إذا كان الفقه يواجه اليوم أزمةً حقيقية، فهي ليست في تغير الواقع، ولا في تراكم المستجدات، بل في وهمٍ رسَّخه الخطاب التقليدي حين جعل الاستقرار غايةً، لا وسيلةً، وكأنَّ الفقه كان يومًا ما كيانًا صلبًا لا يتغير، بينما تشهد حركة التاريخ أنه لم يكن قويًا إلا بقدرته على التحول دون أن يفقد مضمونه، ولم يكن فاعلًا إلا حين امتلك أدواتٍ تتجاوز التكرار إلى البناء.

إننا بحاجة إلى إعادة تعريف الاستقرار الفقهي، لا باعتباره سكونًا يُجمّد النصوص في قوالبها، ولا تذبذبًا يجعلها تتشكل وفق الضغوط العابرة، بل كونه ميزانًا ديناميكيًا يضبط التحولات دون أن يغرق فيها، ويصوغ الأجوبة دون أن يتخلى عن معاييرها. فالفقه الذي لا يملك مناعةً داخليةً تحميه من التحلل، ولا مرونةً واعيةً تحرره من الجمود، لن يكون سوى ظلٍّ باهتٍ لزمنٍ مضى، أو أداةٍ طيّعةٍ لإراداتٍ لم تحسن فهمه.

إنَّ الدولة، وهي تسعى إلى الاستقرار، تحتاج إلى فقهٍ يدرك تعقيدات الحكم دون أن يُفقده ذلك بوصلته الأخلاقية، والمجتمع الذي يسعى إلى هويةٍ متجددة، والمفكر الذي يفتّش عن موطئ قدمٍ في ساحةٍ معرفيةٍ متغيرة، كلهم يحتاجون إلى فقهٍ لا يبيع الوهم باسم التقاليد، ولا يسوّق التنازلات تحت شعار التحديث. وأما الخطاب الأصولي، فإن لم يدرك أنَّ القواعد ليست مجرد سياجٍ يحمي الأحكام، بل أدواتٌ تُوجّه الاجتهاد، فإنه لن يكون أكثر من مرآةٍ مكسورةٍ تعيد إنتاج نفسها في كل دورةٍ زمنية.

                لقد حان الوقت لتجاوز السؤال التقليدي: "هل يمكن للفقه أن يواكب العصر؟"، إلى السؤال الأعمق: "كيف يعيد الفقه بناء نفسه ليكون قادرًا على استباق تحولات العصر، بدل أن يلهث خلفها؟". فالفقيه الذي لا يملك رؤيةً للمستقبل، هو في الحقيقة مؤرخٌ لما انقضى، وليس صانعًا لما هو آتٍ.

إنَّ أزمة الفقه ليست في النصوص، بل في غياب العقول القادرة على استنطاقها، وليست في الحداثة، بل في ضعف المنهجيات التي تُمكّن من فهمها. وبين من يحنّ إلى استقرارٍ لم يكن موجودًا إلا في الأذهان، ومن يطالب بتجديدٍ لا يحمل محدداتٍ واضحة، يبقى السؤال معلقًا: هل نحن بحاجة إلى إعادة الفقه إلى استقراره السابق، أم إلى إعادة بناء استقرارٍ فقهيٍّ جديد، يضبط الفوضى دون أن يقتل الإبداع؟

هذه ليست دعوةً لإعادة إنتاج الماضي، ولا لمجرد إصلاح الفقه، بل لإعادة التفكير في الفقه نفسه. فإما أن نمتلك القدرة على صياغة فقهٍ للمستقبل، وإما أن نظلُّ ندور في دوائر مغلقة، نعيد فيها إنتاج الأسئلة نفسها، بإجاباتٍ لم تعد تكفي حتى لطرحها.

د/ يوسف حميتو، أستاذ مشارك بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية