الخميس 10 إبريل 2025
مجتمع

الدكتور أنور الشرقاوي: قراءة علمية لظاهرة الاعتداء الجنسي في القطاع الطبي

الدكتور أنور الشرقاوي: قراءة علمية لظاهرة الاعتداء الجنسي في القطاع الطبي محمد أنور الشرقاوي والجراح الفرنسي المتقاعد جويل لو سكوارنيك(يسارا)
منذ الرابع والعشرين من فبراير 2025، تعيش فرنسا على إيقاع محاكمة طبيب بلغ من العمر اليوم أربعة وسبعين عامًا، يُحاكم بتهمة الاعتداء الجنسي على أكثر من ثلاثمائة طفل، كانوا قد وثقوا فيه حين جاؤوا لطلب العلاج خلال مسيرته المهنية.

إن الاعتداء الجنسي من قبل الأطباء على المرضى، وخاصة الأطفال، بات ظاهرة تتكشف فصولها في مجتمعات عدة.
بل هناك حالات يُتهم فيها أطباء متمرسون باستغلال طلابهم المتدربين، رجالًا ونساءً، في استغلال واضح للسلطة والخبرة.

لكن، هل المغرب معنيٌّ بهذه الظاهرة؟
الصمت مطبق، والجميع يشيح بوجهه عن الحقيقة، فلا حديث يُفتح، ولا أصابع تُشير.

فلنحاول إذن أن نقترب من هذا الموضوع بنظرة علمية تُلقي الضوء على ما يجري في العتمة.

الطبيب بين قداسة المهنة وخيانة الثقة

يُنظر إلى الطبيب غالبًا على أنه حارس الصحة، ومرشدٌ في درب الشفاء، ورجلٌ يحمل رسالة إنسانية عظيمة.
غير أن بعضهم، في خيانة مخزية لهذا الدور السامي، يحوِّل ثقة المرضى، وأحيانًا ثقة الأطفال الأبرياء، إلى فخ قاتل.

هذه الأفعال ليست مجرد جرائم عابرة، بل هي ظاهرة تستحق تحليلًا نفسيًا وسيكولوجيًا معمقًا، لفهم أبعادها، ومن ثم العمل على منعها واقتلاعها من جذورها.

السلطة المطلقة تولّد الجريمة

حين يدخل الطفل إلى غرفة الفحص، يكون في وضعٍ من الانقياد التام.
لا يملك القدرة على الفهم الكامل لما يحدث، ولا على مقاومة تعليمات الطبيب، فهو يرى فيه شخصية عليا يجب الاستماع إليها بلا جدال.

والطبيب، بفضل معرفته وسلطته المجتمعية، يحظى بهالة من الاحترام تكاد تكون مطلقة.
لكن، في عقول بعض المنحرفين، تتحول هذه السلطة إلى وسيلة لإشباع نزعات مريضة.

يرى علماء النفس في هذه الحالات انحرافًا مرضيًا في استغلال السلطة، حيث لا يكتفي المعتدي بارتكاب فعلته، بل يستخدم نفوذه لإرغام الضحية على الصمت.

والطفل، الذي لا يملك وسيلة للتعبير عن صدمته، يقع في شَرَك الخوف والخزي والذنب، فيظل أسيرًا لهذه المشاعر التي تكبّله عن البوح بالحقيقة.

من هو الطبيب المُعتدي؟ بين الاضطراب النفسي والإنكار الأخلاقي

يتفق الخبراء في علم النفس المرضي على أن الأطباء الذين يعتدون جنسيًا على الأطفال ليسوا مجرد مجرمين عاديين، بل يعانون من اضطرابات نفسية عميقة.

غالبًا ما يتسمون بـ اضطراب النرجسية المرضية، فلا يرون الآخرين كبشر لهم مشاعر، بل كأدوات لإشباع رغباتهم.

مشاعر التعاطف لديهم غائبة تمامًا، واستبدلت برغبة في التحكم المطلق وتحقيق المتعة الشخصية.

وبعضهم يعيش في حالة إنكار ذاتي، حيث يقنع نفسه بأن ما يفعله ليس خطأ، بل يجد مبررات مشوهة لأفعاله، فيرى الطفل كطرف "موافق"، في تزييف مَرَضي للحقيقة.

أما الآخرون، فهم يعيشون ازدواجية نفسية خطيرة، يرتدون قناع الطبيب القدوة صباحًا، ثم ينزعونه ليكشفوا عن وجه المجرم ليلًا، وهو ما يجعل كشفهم صعبًا للغاية.

لماذا يرتكبون هذه الجرائم؟

تتعدد الأسباب التي تدفع هؤلاء إلى ارتكاب أفعالهم الشنيعة، ومن أبرزها:

ميول جنسية مرضية مكبوتة : بعض هؤلاء الأطباء يعانون من رغبات شاذة لا يستطيعون التحكم فيها، فيلجؤون إلى مرضاهم كوسيلة لإشباعها.

شعور بالإفلات من العقاب : بحكم مكانتهم في المجتمع، والاحترام الذي يحيط بهم، يعتقدون أنهم بمنأى عن المساءلة.

التدرج في التعدي : كثير منهم يبدأ بتصرفات مبهمة، يختبر بها صمت ضحيته، قبل أن يتمادى أكثر فأكثر.


لماذا تمر هذه الجرائم دون عقاب ؟

السبب الأول هو الصمت المفروض على الضحايا .
فالطفل، بطبيعته، يعجز عن التعبير عمّا حدث له، إما لجهله بأن ما وقع هو جريمة، أو لخوفه من العواقب، أو لشعوره بالخجل.

أضف إلى ذلك أن المجتمعات، في كثير من الأحيان، تعامل الأطباء كرموز لا يجوز التشكيك فيهم، مما يجعل أي اتهام لهم ضربًا من التجديف.

وفي ظل هذا التقديس، يميل الجميع إلى تصديق الطبيب، لا الطفل.

كيف نحمي الأطفال من هذه الجرائم ؟

تعزيز التعليم الأخلاقي للأطباء : يجب أن تبدأ التوعية منذ المراحل الأولى من دراسة الطب، لزرع ثقافة تحترم الحدود الأخلاقية للمهنة.

تشجيع الإبلاغ عن الانتهاكات : لا بد من وجود آليات تتيح للضحايا والمحيطين بهم التبليغ دون خوف من الانتقام أو الإضرار بالسمعة.

فرض رقابة صارمة : ينبغي اعتماد إجراءات تراقب سلوك الأطباء أثناء معاينة الأطفال، خاصة في الاختصاصات التي تنطوي على خطر أكبر.

دعم الضحايا نفسيًا وقانونيًا : فتح المجال أمامهم للتعبير، وتوفير علاج نفسي متخصص لهم، ومواكبتهم قضائيًا لضمان حقوقهم.


كسر الصمت لحماية الأبرياء

يجب ألا تبقى قضايا الاعتداء الجنسي في المجال الطبي ملفات سرية لا تنكشف إلا بعد عقود من الألم.

فالطب، وإن كان فنًا نبيلًا، لا يجب أن يكون ملاذًا آمنًا للمتوحشين.

وعلى المجتمع بأسره، مؤسساته وأفراده، أن يتحمل مسؤوليته في كشف هؤلاء الجناة، وإرساء منظومة تحمي الضعفاء من براثنهم.

لم يعد هناك مجال للصمت، فقد آن أوان المواجهة.

فخلف كل طفل دُمّر على يد طبيب معتدٍ، هناك مأساة لم يكن ينبغي أن تقع.