ربما بدأت تتشكل لدى بعض صناع القرار رؤية جديدة، لها مبرراتها ولها مخاطرها كذلك، مفادها أن الدولة لكي تنجح في قيادة المجتمع نحو الحداثة، ببطء شديد لكن أيضا بهدوء وسلام، ينبغي عليها أن تستغني عن المثقفين جملة وتفصيلا، والمبررات تبدو كما لو أنها مقنعة بالفعل: المثقفون في مجتمعاتنا فاشلون في إقناع الشعوب، فاشلون في تحديث العقول، فاشلون في تنمية الذكاء العمومي، فاشلون في التعاون حتى فيما بينهم، وذلك بسبب ميل البعض إلى الغموض، جنون العظمة لدى البعض الآخر، والانحطاط الأخلاقي لدى الكثيرين. بذلك النحو يضع المثقفون الحداثة في موقف ضعف، ويُسهلون الهجوم عليها من طرف "الغوغاء والدهماء". ما يعني أن استغناء الدولة عن المثقفين قد يبدو مبررا ! إلا أن هناك مبرر ثان أشد شراسة، حيث قد يشعر بعض صناع القرار بأن الذكاء الاصطناعي يتفوق على قادة الفكر في القدرة على إعداد الخطب والخطط والبرامج وحتى اقتراح الأفكار في مختلف المجالات. وهذا أيضا صحيح حيث يمكن لأي موظف عمومي في أوكرانيا اليوم أن يحصل من الذكاء الاصطناعي على أقوى مخطط للتواصل الاستراتيجي تحتاجه بلده لما بعد الحرب، كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يمنح لأي طالب جامعي في فرنسا أفضل أطروحة حول الموقف الكانطي من التبرع بالأعضاء البشرية، رغم أن الإشكالية لم تكن مطروحة زمن كانط. وفي النهاية يبدو السؤال مبررا هل انتهى دور صناع الفكر؟
قد لا يتسع المجال لبسط المطارحة بما يكفي وكما ينبغي، فقد يحتاج القول إلى مقام آخر، إلا أن هناك أمران ينبغي التأكيد عليهما بإيجاز قبل العودة إلى التحليل في مناسبات لاحقة:
قد لا يتسع المجال لبسط المطارحة بما يكفي وكما ينبغي، فقد يحتاج القول إلى مقام آخر، إلا أن هناك أمران ينبغي التأكيد عليهما بإيجاز قبل العودة إلى التحليل في مناسبات لاحقة:
-أولا، الاستغناء عن قادة الفكر لا يتيح لصناع القرار إمكانية التقدم إلا لجيل واحد لا أكثر، أي إلى حدود استنفاد المعطيات الجاهزة مسبقا. أثناء ذلك يخفت الاندفاع الطبيعي للذكاء البشري لكي يستشري الغباء، ومن ثم قد تنهار المكتسبات الحداثة والتمدن بسرعة كما حدث في عديد من المجتمعات في عالمنا الإسلامي. حين تستنفد المعطيات المتوفرة لأي جيل دورها يحتاج الموقف إلى اندفاع جديد، خيال جديد، فرضيات جديدة، وبحيث لا ينبغي أن يكون قادة الفكر في مرحلة تقاعد سابق لأوانه أو في حالة استقالة.
إن الدور الأساسي لقادة الفكر في كل الأحوال هو التفكير في الممكنات اللامفكر فيها، واقتراح المبادرات غير التقليدية، والتي يصعب تصورها بدون اعتماد على الحلم والخيال والذاكرة الجينية والحب والتعاطف والوعي التراجيدي بالفناء، أي بدون اعتماد على الإنسان.
إن الدور الأساسي لقادة الفكر في كل الأحوال هو التفكير في الممكنات اللامفكر فيها، واقتراح المبادرات غير التقليدية، والتي يصعب تصورها بدون اعتماد على الحلم والخيال والذاكرة الجينية والحب والتعاطف والوعي التراجيدي بالفناء، أي بدون اعتماد على الإنسان.
-ثانيا، لا يتفوق الذكاء الاصطناعي إلا اعتمادا على اندفاعات العقل الطبيعي للإنسان، مثلا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصمم لنا منازل، وسيارات، وموسيقى، ونصوصا، وحتى مستوطنات مناسبة للعيش في المريخ، بل قد يتفوق في ذلك كله، لكنه يعتمد بالأساس على آخر جيل من المعطيات التي أوجدها الذكاء البشري انطلاقا من اندفاعه الروحي نحو اكتشاف العوالم المجهولة، اختبار ما لا يمكن اختباره، وافتراض ما لا يمكن افتراضه، ذلك الجنون البرومثيوسي الكامن في الروح والجينات هو سر الأسرار، هو السر الذي لا يمكن استنساخه، لأنه ثمرة معركة الإنسان الخاسرة ضد الألم، والفقد، والملل، والفناء. إلى الآن ليس هنالك من يخوض هذه المعركة غير الإنسان.