في ظل التحولات العالمية المتسارعة التي يشهدها قطاع الإعلام، يتجه المغرب نحو إعادة هيكلة مشهده السمعي البصري العمومي، من خلال إنشاء "هولدينغ" جديد، من المنتظر أن يحقق عمليتي تعزيز السيادة الإعلامية وتحديث القطاع ليتماشى مع التحديات الراهنة .. هذا المخطط، الذي يراهن على خلق توازن بين الاستقلالية الإدارية والتجميع التقني للقنوات والإذاعات العمومية، يثير تساؤلات حول تأثيره على العاملين في المجال، واستراتيجية الإشهار، ومستقبل التلفزيون التقليدي أمام اكتساح الوسائط الرقمية لعالم التواصل وحصدها لنسب مشاهدات خيالية.
وقبل أن نتطرق إلى تفاصيل هذا المخطط الإعلامي لابد من الإشارة أن هذا الهولدينغ يشمل الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة (SNRT)، التي تدير عدة قنوات منها الأولى، الرياضية، الثقافية، المغربية، تمازيغت، العيون الجهوية، السادسة (الدينية) وأفلام تيفي، إضافة إلى الإذاعة الوطنية و16 محطة إذاعية، من بينها 11 محطة جهوية، كما سيشمل المخطط القناة الثانية "صورياد - 2M"، إلى جانب "قناة ميدي 1 تيفي" وإذعة "ميدي 1 راديو" المتخصصتان في الأخبار.
فهل نحن أمام ثورة إعلامية حقيقية أم مجرد إعادة لتوزيع الأدوار !!؟
للإجابة عن هذا السؤال وأسئلة أخرى مرتبطة به، ارتأينا توظيف تقينات التحليل الإداري والاقتصادي، التي تتقاطع مع علم الاجتماع التنظيمي، وهو فرع يهتم بدراسة كيف تتكيف المؤسسات مع التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، ففي علم الاجتماع، يُنظر إلى المؤسسات على أنها كيانات ديناميكية تتفاعل مع بيئتها الاجتماعية والاقتصادية، فعندما تحدث تغييرات في الإدارة، فإنها غالبا ما تكون استجابة لضغوط مجتمعية، مثل تطور القيم الثقافية أو التغيرات التكنولوجية.
ومن هذا المنطلق يبدو أن دوافع إنشاء الهولدينغ السمعي البصري في الوقت الراهن، نابعة من ضرورة التجاوب مع التطورات التكنولوجية لعالم التواصل الرقمي، وبما أن التصور الجديد للهولدينغ السمعي البصري للمغرب، يرتكز على مبدأين أساسيين وهما:
أولا: تجميع الخدمات التقنية والبث في شركة واحدة.
ثانيا: الإبقاء على استقلالية الشركات الكبرى مثل صورياد (دوزيم) و"ميدي آن" على المستوى الإداري والمالي.
فمن الواضح أن هذه الخطوة جاءت استجابة لحاجة ملحة إلى "ترشيد النفقات"، وضمان كفاءة البث، وتعزيز مكانة الإعلام العمومي أمام المنافسة المتزايدة للمنصات الرقمية الخاصة التي تصل إلى المشاهد المغربي عبر شاشة التلفزيون والحاسوب والهاتف النقال ...
لكن يبقى السؤال الذي ستكشف الأيام القادمة الجواب عنه، هو مدى تأثير الهيكلة الجديدة على مصير العاملين بالقطاع وسوق الشغل بالمجال السمعي البصري العمومي وجودة المحتوى السمعي البصري وحجم عائدات الإشهار !!؟؟.
ولاستشراف الجواب عن هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى كون هذا المخطط لا يمكن أن يطبق على أرض الواقع دون إنشاء عدة شركات متخصصة، كما وقع في عدة تجارب بدول أخرى، إذ من البديهي أن ينتج عن مثل هذه المخططات إحداث شركات ضمن سلسلة ترتيبات تنفيذ المشروع، إذ سيرتكز الهولدينغ على إحداث شركات من بينها :
شركة للبث وهي المسؤولة عن إدارة الترددات والبنية التحتية التقنية وشركة للإنتاج تهدف إلى تحسين جودة المحتوى السمعي البصري، وأيضا شركة للحلول الرقمية وهي التي ستواكب التحول الرقمي وتعزز حضور الإعلام العمومي على المنصات الحديثة، إضافة إلى شركة للاقتناء وهي التي ستتولى شراء الحقوق الرياضية والترفيهية لتعزيز المنافسة.
هذه الهيكلة قد تؤدي إلى تغييرات جوهرية في فرص العمل، إذ من المرتقب تقليص بعض الوظائف التقليدية، مقابل خلق فرص جديدة في مجالات الرقمنة وإدارة البيانات، كما سيكون على الصحفيين والمذيعين التكيف مع أنماط إنتاج جديدة، تتطلب مهارات متعددة في الإعلام الرقمي.
من المعروف عالميا أن مداخيل الإشهار، هي العمود الفقري لتمويل الإعلام العمومي والخاص، لكن مع تزايد توجه المعلنين نحو المنصات الرقمية، فقد بات من الضروري إيجاد نموذج اقتصادي جديد، لذلك أضحى الحل هو تعزيز دور شركة "ريجي 3" كذراع إعلاني للهولدينغ، ما قد يسمح بزيادة العائدات عبر استراتيجيات تسويقية موحدة، غير أن نجاح هذه الخطوة سيعتمد على قدرة القنوات على جذب المحتوى الإعلاني، ومدى التكيف مع متطلبات السوق الجديدة، إذ أن انتشار خدمات البث عبر الإنترنت، فرض على التلفزيون التقليدي تبني نماذج جديدة للحفاظ على جمهوره، لذلك جاء إنشاء شركة للحلول الرقمية داخل الهولدينغ كحل لمواجهة هذا التحول، عبر تطوير منصات إلكترونية لمواكبة عادات المشاهدة الحديثة.
إن من أهم ما جاء به مخطط الهولدينغ السمعي البصري الوطني هو توحيد البث والتقنيات، ما سينعكس على مصير العاملين بالقطاع العمومي، ذلك أن تجميع البث والتقنيات في شركة واحدة، يعني أن جميع القنوات ستعتمد على نفس المنصة التقنية بدل أن تكون لكل قناة بنيتها الخاصة، وهذا القرار يمكن أن يؤدي إلى تقليل الحاجة إلى فرق تقنية متعددة داخل كل قناة، مما قد ينتج عنه فقدان بعض الوظائف في هذا المجال، كما أن توحيد المعايير التقنية سيفرض على التقنيين التأقلم مع أدوات جديدة تتطلب تدريبا إضافيا، وتجدر الإشارة أن تحسين جودة البث وتقليل التكاليف الإجمالية على المدى الطويل، قد يتيح استثمارات في مجالات أخرى مثل الإنتاج أو الرقمنة.
إن الاحتمالات التي جاءت في هذا المقال، لم تأت من فراغ، لكنها اعتمدت على رصد وتحليل تجارب دولية سابقة، ففي فرنسا عام 2010، قامت الحكومة الفرنسية بدمج خدمات البث للقنوات العمومية تحت مظلة "فرانس تيليفيزيون"، مما أدى إلى تقليص الوظائف التقنية بنسبة 15%، لكن نتج عن توجيه الموارد تحسين جودة الإنتاج والانتقال إلى البث عالي الدقة .. وضمن تجربة مماثلة في إيطاليا عندما دمجت "RAI" بعض خدماتها التقنية، اضطر العديد من التقنيين إلى التكيف مع أنظمة جديدة، وأعيد توزيع بعض الأطر والتقنيين ضمن وظائف جديدة لمشاريع رقمية.
إن من بين الإجراءات التي سيعرفها المخطط، استقلالية الشركات داخل الهولدينغ الوطني المغربي، و يعني ذلك أن كل شركة ستكون مسؤولة عن تدبير ميزانيتها وتعاقداتها وخطها التحريري، و هذا الأمر قد يؤدي إلى الحفاظ على استقرار الوظائف داخل الشركات الكبرى مثل "صورياد" و"ميدي آن"، لأن كل شركة ستواصل تسيير شؤونها وفق مواردها الخاصة، لكن قد تتمكن بعض الشركات من تحسين ظروف العمل والحفاظ على امتيازات الموظفين، بينما يمكن أن تواجه شركات أخرى صعوبات مالية.
تهدف إعادة هيكلة بعض الإدارات داخل الشركات إلى جعلها أكثر تنافسية وربحية، فعندما أعادت الحكومة الإسبانية هيكلة مجموعة "RTVE"، تم منح بعض القنوات التابعة لها استقلالا ماليا، مما ساعدها على البقاء والاستمرار، لكن بعض القنوات الإقليمية اضطرت إلى تقليص عدد الموظفين بسبب ضعف التمويل.
وفي تجربة أخرى بالولايات المتحدة الأمريكية يعتمد نظام الإعلام العمومي الأمريكي (PBS)، على استقلالية كل قناة محلية، مما يؤدي إلى تفاوت كبير في جودة البرامج والتمويل بين المحطات المختلفة.
ومن التجارب المهمة دوليا في هذا السياق، ما قامت به بريطانيا، إذ أنشأت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) شركة "BBC Studios" للإنتاج، مما وفر فرص عمل جديدة وأتاح للشركة التوسع في الأسواق الدولية، وفي ألمانيا قامت "ARD" بإنشاء منصة رقمية موحدة لجميع قنواتها، مما خلق فرص عمل جديدة من خلال توظيف متخصصين في البيانات و تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وبالرجوع إلى خدمات الإشهار و الغاية منه، من المعلوم أن شركة "ريجي 3" ستكون الواجهة الأساسية للإشهار داخل الهولدينغ السمعي البصري المغربي، ويمكن أن يتم نقل بعض العاملين في إدارات الإشهار داخل القنوات إلى "ريجي 3"، وهو ما قد ينتج عنه تحويل دور إدارات الإشهار داخل القنوات، إلى مجرد مكاتب تمثيلية تعمل بالتنسيق مع الشركة الأم، لكن تحسين مداخيل الإشهار عبر استراتيجية موحدة، قد يعزز قدرة القنوات على الاستثمار في الإنتاج، كما وقع في كندا عندما تم توحيد الإشهار في هيئة "CBC/Radio-Canada"، فقد ساعد ذلك على تحسين المداخيل، لكنه أدى إلى تقليص إدارات الإشهار داخل القنوات.
وفي اليابان التي أسست هيئات الإذاعة الوطنية NHK منذ 1926 وتعتبر أكبر مؤسسة إعلامية بالبلد، وتقدم اليوم خدمات تلفزيونية عبر عدة قنوات، كما تقوم بتقديم خدمات الإنترنت عبر موقعها الإلكتروني ومنصات البث المباشر، فقد أنشأت اليابان بالموازاة قسما مركزيا للإشهار، مما سمح بتحقيق استراتيجيات تسويق أكثر كفاءة، لكنه اضطر العاملين في الإدارات المحلية إلى إعادة التأهيل أو تغيير وظائفهم.
إن التحول نحو الحلول الرقمية سيفرض إعادة تأهيل الصحفيين والمذيعين للتعامل مع الوسائط الرقمية، بما في ذلك منصات الفيديو عند الطلب (VOD) و وسائل التواصل الاجتماعي، مما يتطلب اكتساب مهارات جديدة تتماشى مع التطورات التكنولوجية. وفي هذا السياق، ستبرز الحاجة إلى توظيف خبراء في تطوير التطبيقات وتحليل البيانات وصناعة المحتوى الرقمي، لضمان مواكبة المؤسسات الإعلامية لمتطلبات الوقت الراهن، غير أن هذا التحول قد يؤدي إلى احتمال تقليص الوظائف في قطاعات البث التقليدي لصالح التوسع الرقمي، حيث ستصبح التقنيات الحديثة بديلا أساسيا، عن العديد من الأدوار التقليدية، مما سيستدعي إعادة هيكلة لائحة الأطر العاملة في المجال الإعلامي، ففي دولة السويد ركزت هيئة الإذاعة السويدية (SVT) على الرقمنة، مما أدى إلى الاستغناء عن بعض المذيعين التقليديين مقابل توظيف مبدعين "رقميين"، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أدى توسع شبكة "CNN" في البث عبر الإنترنت، إلى خلق وظائف جديدة في مجال التحليل الرقمي وإدارة منصات التواصل الاجتماعي.
وحتى لا ننظر فقط إلى الجانب الممتليء من الكأس، فمن المفيد الإشارة إلى تجربة الولايات المتحدة الأمريكية مع قناة "PBS" التي تعتبر واحدة من أكبر القنوات العمومية في البلاد، ففي منتصف التسعينيات، قررت الحكومة الأمريكية دمج خدمات البث التقنية تحت مظلة واحدة لتقليل التكاليف وتحسين الكفاءة، ولكن هذه الخطوة لم تُحقق الأهداف المرجوة، إذ نتيجة لذلك، تعرضت بعض القنوات المحلية التابعة لـ"PBS" لضغوط مالية كبيرة، حيث تم تخفيض عدد الموظفين، مما أثر سلبا على جودة المحتوى وتنوع البرامج، بل إن بعض المحطات اضطرت إلى تقليص ساعات البث واختيار محتوى أقل تنوعا لتقليص التكاليف، وهذا التحول أدى إلى تدني مستوى البرامج الثقافية والتعليمية التي كانت تميز القنوات العمومية، و هذه التجربة الأمريكية تبرز التحديات التي قد يواجهها "الهولدينغ السمعي البصري" في المغرب، حيث أن الجمع بين التقنيات وإعادة الهيكلة قد يؤدي إلى تقليص بعض الأدوار التقليدية على حساب تكريس نماذج البث الحديثة، التي قد تفتقر إلى التنوع الثقافي والإعلامي الذي يوفره الإعلام العمومي التقليدي.
الخلاصة هي أن طبيعة خطة الهولدينغ السمعي البصري الوطني، ستفرض تحديات على العاملين في القطاع، لأن بعض الوظائف التقليدية قد تختفي تماما أو تتغير بشكل تدريجي أو كلي، بينما ستظهر فرص جديدة في مجالات الرقمنة و الإنتاج وإدارة الحقوق، ويبقى نجاح هذه الخطة رهينا بمدى استعداد الأطر والعاملين والمؤسسات للتكيف مع هذه التغييرات.
لا يختلف إثنان في مسألة أن مشروع الهولدينغ السمعي البصري المغربي، يعد خطوة جريئة نحو تحديث القطاع، لكنه يواجه تحديات جوهرية تتعلق بإدارة التحول الرقمي، وحماية حقوق العاملين، وضمان استدامة التمويل، فتحقيق النجاح في هذا المشروع لن يكون رهينا بالبنية التحتية الجديدة فقط، بل يعتمد أيضا على الرؤية التحريرية، واستراتيجية المحتوى، ومدى قدرة الإعلام العمومي على التكيف مع واقع إعلامي يتغير باستمرار.
ختاما، يطرح مخطط الهولدينغ السمعي البصري الوطني تساؤلات جوهرية تتجاوز البعد التقني والإداري، لتمتد إلى قضايا أعمق تتعلق بالاستقلالية التحريرية، ومستقبل الإعلام الخاص في ظل هذه الهيكلة، ومدى قدرة هذا النموذج على خلق بيئة تنافسية عادلة، كما أن نجاح المشروع لن يكون رهينا بالبنية التحتية والتدبير المالي فحسب، بل يرتبط أيضا بالإطار القانوني والتشريعي الذي قد يحتاج إلى مراجعة لضمان تكيفه مع التحولات الجديدة.
فهل سيستطيع الإعلام العمومي المغربي المنافسة في سوق تتحكم فيه شركات عالمية عملاقة مثل نتفليكس ويوتيوب!؟.
وهل سيفتح هذا المخطط آفاقا جديدة لفرص الشغل في القطب العمومي و يحسن من جودة المادة الإعلامية شكلا وموضوعا !؟.