الجمعة 21 فبراير 2025
كتاب الرأي

عبد الصمد الشنتوف: "أقيوق"..السوماتي الثائر

عبد الصمد الشنتوف: "أقيوق"..السوماتي الثائر عبد الصمد الشنتوف
كان الوقت ربيعا، وربيع سوماتة هذا العام ليس كسالف عهده. أصبح الوضع على كف عفريت ينذر بالقلق. حسب ما يصل من أنباء، الأمور تتجه نحو مزيد من التصعيد والاحتقان. أعصاب الناس مشدودة، والتصادم أصبح حتميا لا مفر منه.
بلدات القبيلة الثلاث (تاولة، الخربة، وبوحمصي) ترتاح بين أذرع جبال وعرة، تكسوها غابات موحشة. الشمس تطل ضاحكة من عنان السماء مداعبة أمل المجاهدين في النصر.
سهل ريغة الذي يفصل هضبة تزار عن جبل سوماتة مخضر منبسط، وشجيرات الدوم الكثيفة تزحف نحو سفوح المرتفع الصخري الشاهق.
واد بوحمام هادئ غير جارف، ومنسوب المياه منخفض لا يتجاوز الركبتين، إذ يتيح لك عبوره مشيا على الأقدام بينما الماء يجري بتدفق بين الحصى والأحجار الصقيلة.
الزعيم الجبلي الشريف الريسوني توفاه الله منذ سنتين قرب أجدير، وأسد الريف الخطابي تم نفيه إلى جزيرة لاريونيون العام الماضي، أما القائد الكبير أحمد خريرو فقد استشهد منذ ستة أشهر بضواحي بني حزمر. وبالتالي جميع قبائل الشمال أصبحت خاضعة للإسبان، لم يتبق سوى قبيلة واحدة أبت الدخول في طاعة الاحتلال. قبيلة سوماتة المعروفة برماتها البارعين على حد وصف المؤرخ الإسباني "خوان ديسبيرتو".
بعد مفاوضات طويلة ومضنية لم تفض إلى شيء، صدرت الأوامر من المراقب العام بتطوان لبدء الهجوم المباغت. الجنرال سانخورخو غاضب من رد المجاهدين المتعنت. لم يستطع ثنيهم عن مواصلة القتال رغم كل الإغراءات. 
دقت ساعة الصفر. الجميع أعد عدته للملحمة الكبرى. العيون تترقب والأصابع على الزناد. المعركة مفصلية، وعلى الكولونيل أسينسيو القابع فوق هضبة تزار تنفيذ خطته بذكاء وحذر شديدين، لكن كيف؟.
في هذه الأثناء، ارتأى له مشاورة مساعده الدامون القائد السابق بجيش الريسوني، والعليم بمكمن القوة لدى قادة سوماتة الصناديد.
وقف الكولونيل أسينسيو بزيه العسكري الفاخر على حاشية مرتفع تزار موقدا سيجارته. كانت نياشينه المرصعة على كتفيه تبدو بارزة تلمع من بعيد. كلما انعكس عليها ضوء الشمس إلا وزادت تلألأ، فيزداد الكولونيل زهوا وعجبا بنفسه إلى حد الغرور.
ما لبث أن نزع قبعته الأنيقة، وأخذ يشفط الدخان في الهواء بعصبية دون أن يزيح بصره عن جبل سوماتة المنيع. كان يتمنى لو يستفيق صباحا فيجد القبيلة العنيدة قد ابتلعتها الأرض. لا ريب أنه كان يفكر مليا في كيفية إخضاعها بأقل الخسائر.
فجأة، وكأن شيئا لمع في ذهنه، فهم بالمناداة على مساعده كي يسأله: 
- ترى يا دامون، كم عدد هؤلاء الأوغاد الذين رفضوا عرض التسوية بقرية الخربة؟
فرد عليه الرجل بلسان الواثق
- أظنهم يتجاوزون مائتي مقاتل على الأكثر.
فعقب أسينسيو باندهاش لافت
- انظر إلى جيشنا الجرار الذي يعد بالآلاف إضافة إلى الإسناد الجوي، كيف لهذه القلة أن تقف في وجهنا متحدية قرارنا؟ هذا جنون، لا أفهم لا أفهم!
ثم أضاف: أعرف الشاوني الذي يقود رفاقه في تولة، فهو قائد داهية ومحنك سبق أن حاربنا في مواضع شتى جنبا إلى زعيمه الريسوني، قبل أن ينشق عنه ويلتحق بالزعيم الريفي. لكن لم أسمع قط بالشيخ عبد الله وأقيوق، هل تعرفهما؟
صمت الدامون هنيهة وكأنه يستعيد ذاكرته، ثم استطرد:
- الشاوني كما تفضلت يا سيادة الكولونيل راكم تجربة عسكرية وسياسية لما كان قائدا مع الشريف الريسوني، وزادت خبرته توسعا حين التحق بجيش الخطابي حتى صار مقربا منه. أبان عن علو كعبه خلال معركة حبانة الكبرى قرب شفشاون صحبة رفيقه في السلاح النقيرش، وهو بدوره مقاتل مقدام ورامي محترف لا يقل ضراوة عن الشاوني.
أما الشيخ عبد الله فقد تم تعيينه من قبل الريسوني كشيخ على قرية الخربة، رجل طاعن في السن متعصب وعنيد. قاتل هو وصديقه أقيوق مع الريسوني ثم انشقا عنه لاحقا ليلتحقا بأمير الريف. كلاهما أميان، صعبا المراس، بارعان في الرمي والتسديد، لا يخطآن عدويهما إلا نادرا. شاركا بشراسة في معظم المعارك تحت قيادة الشاوني. المعروف عنهما أنهما يبجلان فقيه سوماتة بن يرماق إلى حد القداسة، وملتزمان حرفيا بفتواه الشهيرة: حرمة الإذعان لحكم النصارى.
كان الحس السياسي لدى مجاهدي سوماتة ضعيفا إن لم يكن غائبا، فهم كانوا  يعيشون بين الجبال القاسية حياة شبه بدائية، بعيدة عن التحولات الاجتماعية الطارئة في الحواضر. حياة معزولة عن العالم الخارجي، معظم مؤطريها من فقهاء التقليد. حظهم في فهم السياسة الداخلية قليل، واستيعابهم لموازين القوى العالمية شبه منعدم. الفكرة الوحيدة التي رسخها الفقهاء في أذهانهم هي لا لحكم النصراني، ونعم للحاكم المسلم المتغلب وإن كان فاسدا غاشما.
اقتضت الخطة أن يتم تطويق القبيلة من جميع الجهات الأربع، القائد الرميقي سيقود كتيبة حركة قبيلة الخلوط تجاه مدشر تاولة. القائد الخمال سيتحرك بجحافله نحو مدشري الحرشة وأغليمن، فيما الكولونيل "برابو" سيزحف على مدشر بوحمصي انطلاقا من قاعدة بني عروس. أما الكولونيل أسينسيو فسيتولى الهجوم على مدشر الخربة بعد عبور واد بوحمام لتكون نقطة الالتقاء عند مركز زعرورة. غير أن الدامون كان له رأي آخر. نظرا لمعرفته المسبقة بمقاتلي الخربة العتاة، سيصعب اقتحامها من جهة الأمام وحدها، لذا أشار على أسينسيو أن يقود كتيبته بنفسه قبل انبلاج الفجر، فيتم الالتفاف على البلدة الصعبة من الخلف، مرورا عبر مرتفع "ظهر اليدري"، حتى يقلص عدد الضحايا الذين لن تخطأهم بنادق رماة الخربة الأشداء. فما كان من الكولونيل إلا أن استطاب الفكرة موافقا في الحين.
انطلقت شرارة الحرب في جنح الظلام. التقى الجمعان وحمي وطيس المعركة. كان الطيران يدك مواقع المجاهدين بلا هوادة. الرصاص يتلألأ والقذائف تتطاير في السماء بلا رحمة. لكن المحصلة كانت ثقيلة على السوماتيين نظرا لاختلال ميزان القوة في العدد والمعدات العسكرية. تفاجأ الإسبان بصمود مقاتلي بوحمصي البواسل حيث استماتوا في الدفاع عن قريتهم، واستشهد منهم أكثر من أربعين رجلا، فيما تمكنت جيوش الرميقي من اقتحام بلدة تولة عند منتصف النهار. الشيء الذي أدى بالقائد الشاوني للانسحاب متوجها مع بعض رفاقه إلى منطقة غزاوة الخاضعة للنفوذ الفرنسي. قضى فيها بضعة أسابيع وهو يتلقى رسائل من القائد الدامون يحثه فيها على العودة إلى بلدته والعيش في أمان، واعدا إياه بالعفو.
أما معركة الخربة فقد عرفت منحى خطيرا ومغايرا. اصطدم الكولونيل أسينسيو بصخرة المقاتلين الصامدين الذين أثخنوا في العدو قتلا وجرحا. فلولا التفاف جيش الدامون على المجاهدين من وراء المدشر لما تقدم أسينسيو إلى الأمام قيد أنملة، ذلك أنه خسر عددا كبيرا من الجنود الذين اصطادتهم فوهات بنادق الرماة الأشاوس. سقط المقاتل هاريز جريحا بكسور بليغة على مستوى الساق والفخذ ليتم نقله على وجه السرعة إلى ضريح سيدي مزوار بقرية دار الراطي.
في هذه الأثناء كان الرجل الأعجوبة أقيوق يمثل جيشا لوحده في مواجهة جيش "الحركى" التابع للدامون عند تخوم القرية.
إذ نصب كمينا محكما لاعدائه. كان قد صعد شجرة الدلم الوارفة، ثم شرع يمطر جنود "الحركى" بوابل من الرصاص مختفيا وسط أغصان كثيفة. كاد الدامون أن يصاب بالجنون وهو يشاهد جنوده يتساقطون على الأرض مثل الذباب. لم يكن يدرك من أين يأتي الرصاص. فلولا نفاذ ذخيرة أقيوق وانبعاث دخان كثيف من بندقيته لما افتضح أمره. بعد لحظات قليلة، اقترب بعض الجنود من الشجرة مصوبين بنادقهم نحو الأعلى، لكن الدامون منعهم من ذلك لأنه كان يريد أقيوق حيا، غير أن هذا الأخير فوت عليه الفرصة. كان الدامون يعرف خصمه جيدا ويسمع عنه الكثير. حاول استمالته عبر لين الكلام لكن دون طائل. ظل الدامون مشرئبا بعنقه أكثر من نصف ساعة محاولا إقناعه بالهبوط من فوق الشجرة، لكن أقيوق كان عنيدا أكثر من اللازم. لا يثق في متعاوني الاستعمار، بل وصل به الحد أن شتمه ورماه بالخيانة. لم يستسغ الدامون الإهانة، فاشتعل قلبه غضبا، سرعان ما أمر بإطلاق النار عليه ليخر السوماتي الثائر صريعا فوق الأرض مدرجا في دمائه.
تقدم الدامون بخطوات ثقيلة نحو الجثة الطاهرة، ألقى عليها نظرة حزينة، لربما لم يرد أن تكون النهاية بهذا الشكل. لكن فات الأوان وقضي الأمر. ما لبث أن أمر جنوده بإعداد حفرة تليق بصاحبها، وإهالة التراب على مقاتل شجاع دوخ الإسبان دهرا من الزمن....