الجمعة 21 فبراير 2025
كتاب الرأي

محمد بنمبارك: موريتانيا والصحراء المغربية..الحضور الوازن

محمد بنمبارك: موريتانيا والصحراء المغربية..الحضور الوازن محمد بنمبارك

لموريتانيا رؤية مغايرة للنزاع حول الصحراء عن باقي أطراف الصراع، تتميز باعتماد موقف حيادي يوصف أحيانا بالسلبي وتارة بالإيجابي خاضع لظرفية العلاقات مع الجوار، منسجم مع دينامية المسار الاممي، ولا يهم قادة موريتانيا من قضية الصحراء سوى أمن حدود البلاد واستقرار أوضاعها والحفاظ على كيانها، والرغبة في التوصل إلى تسوية كفيلة بتجنب تفجير الأوضاع بالمنطقة، والرهان على التعاون المشترك في إطار اتحاد مغرب عربي قوي.

 

وقفة لابد منها:

 لا يمكن الحديث عن الموقف الموريتاني دون التوقف في عجالة عند محطة تاريخية هامة، تتعلق بالظروف المحيطة بالانسحاب الاختياري لموريتانيا من وادي الذهب، ومسببات هذا القرار السياسي الرسمي، الذي أخرج نواكشوط من معادلة الصراع على الأرض.

 معلوم أن موريتانيا والمغرب وقعتا بعد مفاوضات مشتركة مع اسبانيا على اتفاق مدريد نوفمبر1975، يقضي بانسحابها من الصحراء الغربية، واقتسامها بين البلدين، ليعود إقليم وادي الذهب إلى موريتانيا، فيما يكتفي المغرب باسترجاع إقليم الساقية الحمراء، وهو الذي كان يطالب بكامل تراب الصحراء الغربية. وقد ظل موقف الملك الحسن الثاني محل تساؤل عن دواعي قبوله مبدأ التقسيم؟

غير أنه وكما يبدو، فإن الملك الراحل كان وقتها مضطر إلى التحلي بالواقعية السياسية والحكمة وضبط النفس والتجاوب مع الظرفية السياسية الإقليمية، انطلاقا من قناعاته ورؤيته الاستشرافية لمآلات ملف الصحراء، ويقينه بأن موريتانيا لن يكون بمقدورها منفردة تتحمل أعباء إقليم وادي الذهب، فيما عينه اليقظة على التقارب الاسباني الجزائري الظرفي الرامي لِعَرْقلة استعادة المغرب لوحدته الترابية. فكان اللجوء للتحالف مع نواكشوط خيار مرحلة، لإبعاد الجزائر وفك ارتباط اسبانيا نهائيا بالصحراء، التي لم تكن لتقبل باستعادة المغرب للإقليمين معا حال انسحابها، بل كانت تحرص بإصرار على إشراك موريتانيا في أية تسوية.

في هذا السياق، وجب التذكير بما ذكره المغفور له الحسن الثاني في كتابه "ذاكــرة مــــلــك" ص 116: " وكان جليا أنه لم يكن بمقدور الموريتانيين الحفاظ على الجزء الجنوبي من الصحراء، وأنهم كانوا سيتخلون عنه ذات يوم. كما كان باديا للعيان أيضا أن البوليساريو سيستغل الفرصة لينقض على الداخلة وجميع ضواحيها. لقد فطنت لذلك.....".

 أغضب الاتفاق الثلاثي الاسباني المغربي الموريتاني 1975، الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي انتقد بشدة الموقف الاسباني، بعدما رأى أن طموحاته قد تبددت، معتبرا الاتفاق بمثابة "احتلال جديد للإقليم". فأشعل حربا بالمنطقة عبر احتضان ميليشيات البوليساريو سياسيا وعسكريا، ودفع بها لخوض حرب عصابات ضد موريتانيا والمغرب. حرب ما كان لها أن تقوم لو ظلت الصحراء مستعمرة اسبانية.

 

الحرب على موريتانيا:

 ركزت الجزائر والبوليساريو ضغوطهما على موريتانيا باعتبارها الحلقة الأضعف حسب تصورهم، التي عانت الأمرَّين خلال سنوات 1975/1979 (المرحلة الدموية) من الهجمات المكثفة لميلشيات البوليساريو المدعومة، في حرب عصابات منتظمة داخل العمق الموريتاني وصلت قلب العاصمة  نواكشوط، مهددة أمن واستقرار البلاد، في وقت لم يكن الجيش الموريتاني جاهزا لخوض حروب، بسبب ضعف التسليح ومحدودية الجند وغياب الاستعدادات وكلفة المجهود الحربي وعدم القدرة على تحمل أعباء إعادة دمج ساكنة الإقليم، فضلا عن الوضع الاقتصادي الهش وسلمية الرئيس المختار ولد داداه، فكان من بين تداعياتها إقدام المصطفى ولد السالك على قلب نظام الحكم في 10 يوليو 1978.

 كانت غايات الجزائر والبوليساريو ترمي بداية إلى كسر التحالف المغربي الموريتاني، ودعوة نواكشوط لفك ارتباطها بالمغرب والتفاوض المباشر مع البوليساريو، وقد تطور الموقف بسبب الإنهاك الحربي إلى المطالبة بانسحابها من وادي الذهب. وقتها كان قادة نواكشوط يبحثون عن منفذ لوقف الحرب والخروج بأقل الأضرار، باعتماد سلام مع البوليساريو والتوصل إلى حل يرضي الجزائر يضا.

تحول الموقف لدى الرئيس الجديد محمد لولي (خلفا لولد السالك)، ورئيس وزرائه محمد خونا ولد هيدالة، إلى الإقرار بأنه لا حق لموريتانيا في وادي الذهب "تيرس الغربية" والمضي نحو التفاهم مع البوليساريو. فبادرت الجزائر إلى احتضان اجتماع غشت 1979، بين موريتانيا والبوليساريو، انتهى بالتوقيع 5/8/1979 على اتفاق يقضي ب:

 " تعلن الجمهورية الموريتانية رسميا أنه لا توجد لديها أية مطالب ترابية على الصحراء الغربية" و"قررت الخروج نهائيا من الحرب الجائرة في الصحراء الغربية..."، وأُرْفِقَ بهذا الاتفاق بـــــند سري يؤكد: " انسحاب موريتانيا من وادي الذهب وتسليمه للبوليساريو بعد 7 أشهر من تاريخ توقيع هذا الاتفاق".

وهو الاتفاق السري الذي أقبره الملك الحسن الثاني دون تردد، باسترجاع وادي الذهب في 14 غشت 1979، بعد السيطرة السريعة للقوات المسلحة الملكية على كامل تراب هذا الإقليم وبسط السيادة المغربية بشكل نهائي. ولتثبيت شرعية التدخل المغربي اسْتقبل الملك الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط شيوخ القبائل الصحراوية بهذا الإقليم، الذين قدموا البيعة لجلالته، كعادة أسلافه من السلاطين. 

 

 واقعية الموقف وتحولاته:

 بعد أن نفضت موريتانيا يدها من تراب وادي الذهب، شهد موقفها تطورات هامة في مسار التعاطي مع قضية الصحراء عبر الأشواط التي قطعها هذا الملف، على كافة المستويات ثنائيا وإقليميا وإفريقيا وأُمميا، فمِن التواجد على الأرض إلى الانسحاب اختيارا، والتوافق على الاستفتاء وتقرير المصير، ثم الاعتراف الاستعجالي ب "الجمهورية الصحراوية" فبراير 1984 عهد الرئيس ولد هيدالة، إلى الميل نحو التخفيف من حدة الميول نحو الجزائر والبوليساريو، منذ تولي الرئيس معاوية ولد الطايع الحكم 1984.

 وعلى العموم فقد تميزت علاقات الأنظمة العسكرية المتعاقبة على حكم نواكشوط، بعلاقات شد وجذب وتقارب وتباعد مع الطرفين المغربي والجزائري، وانتهت إلى أن مقاربة التحالف الثنائي مع هذا الطرف على حساب الطرف الآخر، غير مجدية ولا تخدم السياسة الموريتانية وتوجهاتها داخليا وخارجيا، فلوحظ أن هناك مسارا جديدا يروم نحو سياسة التوازن والتكافؤ بالانفتاح على كل الأطراف المغرب، الجزائر والبوليساريو، واعتماد موقف الحياد الثابت، دون التفريط بضمان الحضور والمشاركة الكاملة في أية تسوية إقليمية للنزاع، ودون الانغماس لدرجة الوحل.

الحرص على هذا التوازن في المنظور الموريتاني كان مرتبطا بالأساس بالمصلحة الوطنية العليا للبلاد، وإذا كانت الظرفية فرضت على موريتانيا التعامل مع البوليساريو، كبلد يعترف به ك"جمهورية"، فقد حافظت على رمزية لهذه العلاقة في إطار محدود لا يرقى إلى مستوى التعامل مع دولة، في ظل غياب أية معطيات سياسية دبلوماسية على أرض الواقع، لذلك فهذا التعاطي لا يرقى إلى نفس الوزن والثقل والأهمية الذي توليه نواكشوط لطرفي الصراع الأساسيين المغرب والجزائر.

فمنذ انسحاب موريتانيا من وادي الذهب، جنحت إلى تقوية نظامها وتحصين جبهتها الداخلية وإعادة بناء قدراتها العسكرية وتطوير جيشها وتحديث منظومتها الدفاعية والرفع من جاهزيتها. وقد تعزز ذلك من خلال الرفع من ميزانية الدفاع الوطني، والتعاون الأمني والعسكري مع مجموعة من الدول الكبرى، وأيضا من خلال التنسيق كمصالح مشتركة مع دول الجوار. أما على مستوى ملف الصحراء فقد حرصت على مسايرة المنتظم الدولي من خلال تبني مخططات المسار الأممي، والتعاون مع مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة والانفتاح على آفاق الحل السلمي، وتبني صيغة الحل الثالث بعد تجاوز فرضية الاستفتاء، ومشاركتها في جولات المفاوضات الأممية إلى جانب المغرب والجزائر والبوليساريو.

 ولا أدل على ذلك من اعتياد موريتانيا ومنذ عدة سنوات، في خُطَبها السنوية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على تبني نفس الموقف بخصوص قضية الصحراء، بالتأكيد على: "تتابع موريتانيا باهتمام قضية الصحراء الغربية، وتؤكد دعمها لمساعي الامين العام للأمم المتحدة وممثله الخاص من أجل الوصول الى حل نهائي شامل وعادل يحظى بموافقة الطرفين، بما يعزز الأمن والسلم في المنطقة ويفضي الى بناء اتحاد مغرب عربي زاهر ومتقدم خدمة لتطلعات شعوبه المشروعة"، وفي خُطَب أخرى تتجاهل موريتانيا التعرض لقضية الصحراء أمام المحفل الدولي، مما يزعج الجزائر والبوليساريو.

يقول السيد أحمد ولد تكدي وزير الخارجية الموريتاني الأسبق (2013/2015) في مذكراته 2023، ص (67/68): "...ان الرئيس معاوية ولد الطايع لم يُجْر أي تغيير على الوضع القائم  في القضية الصحراوية كي لا يُلْهِب الأوضاع أكثر، رغم الالتماسات الكثيرة فقد طُلِب منه فتح سفارة للجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية في أنواكشوط أو قنصلية لها في أنواديبو، وهي مقترحات رفضها دائما وبشكل قاطع، رغم علاقاته الطيبة مع قادة البوليساريو، لقد كان يستقبل بانتظام مبعوثيهم للاستماع إليهم بخصوص آخر تطورات الوضع أو لِحَل المشاكل، وتفادي أي تصعيد في المنطقة".

وهي السُّنة التي دأب عليها باقي رؤساء موريتانيا الذين تعاقبوا على الحكم وإلى اليوم. ومنذ وصول الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني للسلطة سنة 2019 يلاحظ حرصه على تبني موقف أكثر اتزان وعقلانية، مؤكدا دعم مسار التسوية الأممية للنزاع، من دون تحميل طرف بعينه مسؤولية الاحتقان القائم في المنطقة.

 الجدير بالذكر، حِرْص قادة موريتانيا على استقلالية قراراتهم السيادية ورفضهم بكل إصرار وحزم أية إملاءات على سياستهم الخارجية وعلى التوجهات والاختيارات الاستراتيجية لبلادهم، وهو ما لمسناه حينما اعترضت القيادة الموريتانية الحالية على المحاولات الجزائرية المتكررة لاستقطاب نواكشوط إلى مشاريع التجزئة المغاربية وغيرها من مواقف الإثارة والجدل.

 

موريتانيا أولا:

لا صوت يعلو فوق صوت موريتانيا هكذا يفكر قادة البلاد، وهذه استراتيجيتهم في تدبير الأمن الإقليمي وتحصين التراب الوطني وحماية البلاد من التهديدات والأخطار المحدقة بها، التي ترى القيادة الموريتانية أن مصدرها لن يأتي من الدول المجاورة بصفتها أنظمة مركزية، بل من خلال اتساع دائرة حروب العصابات وأنشطة الحركات الإرهابية والهجرة والتهريب وارتفاع نسبة دعوات الحركات الانفصالية بالمنطقة: البوليساريو، القبايل، والازواد، وأحلام "داعش والقاعدة"، وقد يفتح المشهد الانفصالي شهية المزيد من الجماعات حتى من الداخل.

تعكس التطلعات الموريتانية رغبة أكيدة وملحة في وضع حد نهائي لنزاع الصحراء، لأن أي تسوية تعني بالأساس تجنيب المنطقة مخاطر حرب عبثية، والانتقال إلى من حالة الصراع الإقليمي إلى التعاون والتضامن والتنمية على المستوى المغاربي. كما أن لديها رؤية استراتيجية حول الوضعية الحدودية مع الشمال، بإعطاء الأولوية في التعامل مع دولة مركزية قوية.

أما الأطروحة العسكرية الجزائرية المتطلعة الى تكوين "دويلة" تحت إمرتها كذريعة للهيمنة على المنطقة، فلن يؤدي سوى إلى أجواء بغاية الخطورة سياسيا وأمنيا وعسكريا. فَمَن بإمكانه أن يأمن بتسليم مفاتيح المنطقة ويضعها بين أيدي العسكر؟ كل هذه العوامل تأخذها القيادة الموريتانية على محمل الجد وتدرك أبعادها ومدى خطورتها على أوضاع البلاد والمنطقة.

الظروف المحيطة بملف الصحراء تغيرت في مجملها بشكل جدري، انطلاقا من 1975 مرورا ب 1979 و1984، سواء على الأرض أو على مستوى نظرة المنتظم الدولي، ثم التحول اللافت في مواقف العديد من دول العالم ودعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، ولابد أن يأتي يوم على موريتانيا لتتخذ موقفا أكثر تقدما مساعدا، يتناغم مع مستجدات الأوضاع الدولية بما يتماشى ونظرتها المتطورة الحكيمة والعقلانية الطموحة، ورغبتها في تعزيز الأمن والاستقرار وتوفير مقومات التنمية والتطور والتعاون بين دول المنطقة مغاربيا وإفريقيا.    

محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق