الخميس 6 فبراير 2025
كتاب الرأي

مصطفى الخداري: إنها رحلة اجتهاد وصمود وطموح ثم وصول رغم الرياح المعاكس

مصطفى الخداري: إنها رحلة اجتهاد وصمود وطموح ثم وصول رغم الرياح المعاكس مصطفى الخداري

رحلة في مسار مهني

في مساء يوم هادئ، جلستُ أتأمل سنوات العمر التي انقضت بين جدران المدارس وقاعات الاجتماعات، بين دفاتر التحضير ومشاريع التطوير، بين تحدياتٍ أحرقت الصبر وإنجازاتٍ أزهرت بعد طول انتظار. كانت رحلتي في ميدان التعليم أشبه برحلة صعود جبلٍ شاهق، حيث كانت كل خطوة محفوفة بالتحديات، لكنها كانت أيضًا مليئة بالإصرار والأمل.

 

 

البداية: الغريب الذي يسعى للفهم

حين وطأت قدماي أرض هولندا قادما إليها من تطوان، كنت أحمل معي حقيبتي المليئة بأحلامٍ لم أكن أعرف تمامًا كيف سأحققها. دخلت عالم التعليم كمدرّس للغة العربية، وكنت أشعر كمن يحاول التحدث وسط ضجيجٍ لا يفهم لغته. كانت هناك فجوة واسعة بين أولياء الأمور والمدرسة، كنت أراها وأحسها، لكنني لم أكن أمتلك الأدوات اللازمة للتدخل. حاجز اللغة لم يكن حاجزًا صوتيًا فقط، بل كان حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا يفصلني عن محيطٍ لم أكن قد فهمته بعد.

 

لكنني كنت مؤمنًا بأن الفهم هو مفتاح التغيير، فوهبت وقتي لتعلم اللغة وإتقانها، حتى أصبحتُ قادرًا ليس فقط على التواصل، بل على التفاعل والتأثير. ومع إدراكي العميق لمعاناة الآباء الأجانب في فهم النظام التعليمي الهولندي، وُلدت أولى مسؤولياتي الجديدة: منسق العلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور. كان هذا الدور هو البداية الحقيقية لرحلتي نحو التأثير.

 

 

بناء الجسور: عندما يلتقي الآباء

ما إن بدأتُ عملي كمنسق، حتى اكتشفت أن الصورة النمطية التي يحملها البعض عن أولياء الأمور الأجانب لم تكن سوى وهمٍ خلقته المسافات والصمت المتبادل. كانوا يهتمون بتعليم أبنائهم، يتوقون لفهم النظام المدرسي، ويبحثون عن أبوابٍ مفتوحة نحو الحوار. فبدأتُ في إنشاء جسورٍ بين الآباء والمدرسة، ليس فقط عبر اللقاءات والاجتماعات، بل من خلال إشراكهم في أنشطة ملموسة تُشعرهم بأنهم جزءٌ من هذا الصرح.

 

كانت المبادرة الأهم هي مشروع “الآباء يلتقون ببعضهم البعض”، حيث يجتمع أولياء الأمور من مختلف الجنسيات في أمسيات دافئة، يتشاركون الطعام والنقاشات حول قضايا تربوية وتعليمية. لم يكن الأمر مجرد لقاء اجتماعي، بل كان ثورةً صامتة غيّرت مفاهيم كثيرة، وأثبتت أن الاندماج لا يتحقق بالقوانين وحدها، بل بالعلاقات الإنسانية الصادقة.

 

نجاح هذا المشروع لم يكن عابرًا، فقد استمر لأكثر من 25 عامًا، بل وأصبح نموذجًا استثنائيًا استحقت به المدرسة لقب “مدرسة اليونيسكو”، وتمثلت هولندا بهذا المشروع في مؤتمر دولي بدبي، حيث أتيحت لي الفرصة لعرض تجربتي حول منح فرص متساوية لكل الأطفال، بغض النظر عن أصولهم أو ظروفهم.

 

 

الصعود إلى القيادة: ثمن النجاح

مع مرور السنوات، لم تعد المدرسة مجرد بيئةٍ تجمع أطفالًا من أصول أجنبية، بل أصبحت صورةً مصغّرة عن المجتمع الهولندي بتنوعه واختلافاته. وهنا، أدركتُ أن دوري لم يعد يقتصر على التنسيق بين الآباء والمدرسة، بل بات من الضروري أن أخطو خطوة أخرى نحو الإدارة التعليمية.

 

تابعت دراستي وحصلت على دبلوم نائب مدير، ثم دبلوم مدير من معهد مديري المدارس، لأجد نفسي في مواجهة جديدة لم أكن أتوقع حدّتها: معارضة غير مرئية، لكنها محسوسة في كل التفاصيل. كان بعض المسؤولين يرون في تقدمي تهديدًا لنظامٍ اعتاد أن يُبقي أبناء الجاليات في الصفوف الخلفية. حاولوا عرقلتي بأساليب مختلفة، لكنني كنت قد قطعت شوطًا لا يسمح لي بالتراجع.

 

وعندما وضعت المؤسسة أمام الأمر الواقع، تم تعييني كأول نائب مدير مغربي في منطقة تضم 24 مدرسة، غالبيتها مليئة بالأطفال من أصول أجنبية، لكن إداراتها كلها من الهولنديين. لم يكن الأمر انتصارًا شخصيًا بقدر ما كان انتصارًا لرمزية الحضور، بأن يرى هؤلاء الأطفال نموذجًا يشبههم في موقعٍ قيادي، فيؤمنوا بأنفسهم وبقدرتهم على الوصول أيضًا.

 

 

الاعتراف والتكريم: لحظة لا تُنسى

لم يكن طريقي إلى النجاح مفروشًا بالورود، بل كان محفوفًا بالتحديات والمضايقات. بعض “الزملاء” لم يكن يروق لهم أن تقترن نجاحات المدرسة باسمي، والبعض لم يستطع إخفاء دهشته من أن مؤسسة ناجحة كهذه يديرها شخصٌ من أصل مغربي. لكن الأهم أن تأثيري وصل إلى حيث لا يمكن تجاهله.

 

عندما تلقيت خبر ترشيحي للحصول على وسام من بلدية أمستردام، لم يكن ذلك مجرد تكريمٍ شخصي، بل كان شهادةً على أن التغيير الحقيقي يُحدث أثرًا لا يمكن إنكاره. ما زاد من قيمة هذا التكريم هو أنه جاء بفضل دعم أولياء الأمور، الذين وجدوا في جهودي انعكاسًا لطموحاتهم في أن يكون لهم صوتٌ في تعليم أبنائهم.

 

لكن اللحظة التي ستظل محفورةً في ذاكرتي إلى الأبد كانت خلال حفل توديعي بعد 35 عامًا من العمل. لم تكن الكلمات الدافئة التي قيلت عني، ولا حضور الزملاء والأصدقاء والتلاميذ وأولياء الأمور، رغم أهميتها، هي ما جعلتني أذرف الدموع. بل كانت المفاجأة الكبرى: التوشيح بالوسام الملكي الهولندي أمام أعين الجميع. في تلك اللحظة، مرّ شريط حياتي أمامي، تذكرتُ المعاناة الأولى، والليالي الطويلة من الدراسة، والمضايقات، والانتصارات الصغيرة التي كبرت مع الأيام. كان ذلك التوشيح بمثابة اعتراف رسمي بأن الرحلة، بكل ما فيها، كانت تستحق العناء.

 

 

الآن: ماذا بعد؟

اليوم، أعيش حياة أكثر هدوءًا، بعد أن منحتُ نفسي الوقت لأتنفس بعيدًا عن ضغوط الإدارة اليومية. لكن علاقتي بالتعليم لم تنقطع، فما زلتُ أعمل كمستشار للمدارس التي تحتاج إلى الدعم، أنقل إليها تجربتي، وأرشدها إلى الطرق التي تعزز فيها التواصل بين المعلمين وأولياء الأمور.

 

وبينما أستعد لفتح صفحة جديدة، لا أعرف أين ستقودني الأيام القادمة، لكنني أعلم يقينًا أن رسالتي لم تنتهِ بعد. ربما سأشارك تجربتي في أماكن أخرى، وربما سأواصل عملي في دعم المؤسسات التي تؤمن بأن التعليم ليس مجرد مناهج، بل هو بناء جسورٍ بين البشر، حيث لا مكان للتمييز، وحيث لكل طفلٍ الحق في أن يحلم ويصل.

مصطفى الخداري، يوميات رجل تعليم