لا أحد ينكر أن الغلاء في المغرب يعرف حاليا ارتفاعا جامحا وغير مسبوق، وأن المغاربة يواجهون، منذ عدة أشهر، وعلى نحو شامل، موجات غلاء متتابعة تلمس بشكل أكثر ضراوة الفئات ذات الدخل المحدود، مما ساهم في دخول القدرة الشرائية للمغاربة إلى غرفة العناية المركزة، خاصة أن البلاد لم تشهد هذا الغلاء المضطرد منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
وتعتبر اللحوم، بمختلف أنواعها (اللحوم الحمراء، الدجاج، السمك)، من المواد التي أثار ارتفاع أسعارها على نحو ملحوظ، الأمر الذي أثر على ارتفاع أسعار مشتقاتها (الحليب، البيض، الأجبان). فقد سجلت أسعار اللحوم ارتفاعًا بنسبة 1%، والزيوت والذهنيات بنسبة 0.8%، كما زادت أسعار الحليب والجبن والبيض بنسبة 0.6%، وفق ما كشفت عنه مندوبية التخطيط في تقريرها حول الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك (2024). بيد أن هذا الارتفاع ليس سوى حلقة في متوالية من الزيادات المستمرة التي أصبحت من أكثر المواضيع المؤرقة المواطنين في ظل جمود الأجور وفشل سياسات الدعم الاجتماعي، خاصة أن هذه المواد تشكل جزءًا أساسيًا من النظام الغذائي للمغاربة.
وتعزو الحكومة هذا الوضع الذي تعرفه سوق اللحوم إلى ارتفاع تكاليف الأعلاف، حيث شهدت الأعلاف المستوردة ارتفاعًا كبيرًا بسبب التضخم العالمي وأزمة سلاسل التوريد، مما أثر على تكلفة الإنتاج. كما ترجعه إلى الجفاف ونقص الموارد المائية، مما أدى إلى تقلّص الإنتاج الحيواني والسمكي وانخفاض العرض. تنضاف إلى ذلك زيادة تكاليف النقل (سوق المحروقات)، الأمر الذي يساهم في الرفع من تكاليف التوزيع، ويؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع الأسعار، كما يفتح المجال أمام السماسرة الذين يستغلون الوضع للمضاربة في الأسواق.
أمام ذلك، وبدل الانكباب على حل الأزمة جذريا والسيطرة على ارتفاع الأسعار، اختارت الحكومة دعم المستوردين للتخفيف من النقص الحاصل في اللحوم الحمراء، ورغم ذلك، فإن الأسعار تجاوزت 120 درهما للكيلوغرام. بل إنها، وفي خطوة غير محسوبة، أعلنت عن نيتها اللجوء إلى استيراد القطيع الأسترالي، كما سبق أن فعلت العام الماضي مع القطيع البرازيلي والقطيع الإسباني، بمناسبة عيد الأضحى. وهي خطوة تمثل، حسب ما يراه الخبراء، جزءا من محاولات توسيع مصادر استيراد اللحوم الحمراء وتنويع الإمدادات وتقوية العرض في السوق الداخلي، غير أنها تعكس فشل الحكومة في تقديم حلول مستدامة تدعم الإنتاج المحلي وتقلل من الاعتماد على الأسواق الخارجية".
ولا تشد سوق الدواجن عن قاعدة ارتفاع الأسعار، حيث وصل سعر الكيلوغرام الواحد، مؤخرا، إلى 27 درهما. ويرجع مراقبون السبب إلى ضعف جودة الكتاكيت (التلاعب في عملية التفقيس) وسوء التحكم في سلسلة الإنتاج، فضلا عن الاحتكار والزراعة السيئة (ضعف جودة الأعلاف، انخفاض المناعة، نقص الأدوية البيطرية)، إذ تلجأ جهاتٌ إلى التقليص من العرض من خلال بيع كميات محددة للتحكم في السوق. كما يفسر مراقبون آخرون هذا الارتفاع بزيادة الإقبال على منتجات الدواجن نتيجة لارتفاع أسعار اللحوم الحمراء.
وبينما يرى متابعون أن ليس هناك أي مبرر لارتفاع سعر الدواجن، وأن السبب يرجع بالدرجة الأولى إلى عشوائية القطاع، فإن الحكومة تترك الحبل على الغارب، مما يؤكد عجزها عن اتخاذ مجموعة من الإجراءات، من قبيل تعزيز مراقبة سوق الأعلاف المركبة للحد من الممارسات الاحتكارية، وضمان وجود منافسة عادلة، ودعم المزارعين من خلال تقديم إعانات مالية أو تخفيض تكاليف الطاقة المستخدمة في المزارع، وتحسين استراتيجيات الإنتاج لتقليل الاعتماد على الأعلاف المستوردة، فضلا عن ضرورة قيامها بإجراءات زجرية وعقابية ضد المخالفين، سواء أكانوا مربين أم أصحاب محاضن، خاصة أن إنتاج الكتكوت صنف اللحم سجل ارتفاعا ملحوظا، حيث تم إنتاج 391,137 مليون كتكوت في 2024، بزيادة قدرها 5% مقارنة بـ 370,946 مليون كتكوت في 2023، فيما عرف إنتاج كتاكيت الديك الرومي زيادة بنسبة 17%، ليصل الإنتاج إلى 14,306 مليون وحدة في 2024 مقارنة بـ 12,265 مليون وحدة في .2023
على مستوى الوضع السمكي، وخاصة السردين، فإن الأسعار عرفت قفزة كبيرة، حيت تتراوح ما بين 30 و50 درهما للكيلوغرام. كما بات الصيادون يواجهون تحديات كبيرة في نشاطهم وقوتهم اليومي، خاصة أن قواربهم باتت تعود فارغة في أغلب الطلعات البحرية، وهو وضع خطير وغير مسبوق. وبينما ترجع الحكومة النقص الحاد في السردين إلى عوامل مناخية وبيئية، تشير أصابع الصيادين إلى الاستنزاف المفرط الذي تقوم به مراكب الصيد الوطنية والأجنبية للثروة السمكية، وعلى رأسها السردين الذي بات يوجه نحو القطاع الصناعي. وهو ما يؤكد أن التدابير الحكومية لحماية مخزون السمك مجرد حبر على ورق، إذ السؤال هو: أين تجديد المخزونات؟ وأين ضمان استدامة النشاط الاقتصادي المتصل بمصايد الأسماك السطحية الصغيرة، خاصة السردين؟.
إن هذا الوضع المرشح للاستمرار، كما تنبئ بذلك تغيرات الأسواق، يدل على أن الإجراءات الحكومية لم تؤثر بشكل ملموس على أسعار المواد الغذائية، وخاصة اللحوم والأسماك، بل إن الغلاء مستمر ويتفاقم، حتى مع الوعود التي تطلقها الحكومة لضبط الأسواق والتخفيف من ضغط الأسعار وغلاء المعيشي. كما يدل على أن الانفجار الاجتماعي بات وشيكا، إذ يبدي أكثر من نصف الأسر (53.8%) تشاؤمًا بخصوص تطور مستوى المعيشة خلال السنة القادمة، حيث يتوقع مزيدًا من التدهور، بينما يعتقد 38.5% أن مستوى المعيشة سيظل على حاله، وترجح نسبة ضئيلة فقط من الأسر (7.7%) حدوث تحسن. وهذا يدل على أن المغاربة ينظرون إلى مستقبلهم نظرة قاتمة.
ولعل ما يرشح ارتفاع أسعار اللحوم للمزيد من التفاقم أن الحكومة لا تملك أي رؤية استراتيجية لتأمين الأمن الغذائي أو السيادة الغذائية، وذلك راجع إلى ضعف مؤسسات الرقابة والاكتفاء بتشخيص الأوضاع والعجز عن تنفيذ الإجراءات الإصلاحية والتقويمية والزجرية، فضلا عن سيطرة الوسطاء والسماسرة على قطاع اللحوم، وسوء توجيه الدعم المخصص للأعلاف أو المستوردين. ناهيك عن استمرار أزمة الجفاف التي اتضح أن الحكومة عاجزة عن التحكم في بدائله، كما أنها لا تقدم حلولًا شفافة ومقنعة لتجاوز تداعياتها.
إن الجواب على أزمة اللحوم في المغرب وارتفاع الأسعار لا يمكن أن يتم عبر دعم السوق عبر الاستيراد، لأن التجربة كشفت أن الدعم لم يؤد إلى خفض الأسعار، بل ما زالت تواصل الارتفاع. كما أن الاعتماد على الاستيراد كحل أساسي وسريع يجعل المغرب أكثر عرضة لتقلبات الأسعار العالمية، في حين أن دعم الإنتاج المحلي يمكن أن يكون الحل المستدام، ذلك أنه يؤدي إلى تقليل التبعية للأسواق الخارجية، فضلا عن خلق فرص عمل إضافية في قطاع تربية المواشي والدواجن والصيد البحري. كما قد يفضي إلى خفض الأسعار على المدى الطويل إذا تم تحفيز المربين والمزارعين بطريقة صحيحة، مما سيؤدي إلى الرفع من الإنتاج، وإلى تراجع الأسعار، وبالتالي تحقيق الأمن الغذائي.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"