السبت 23 نوفمبر 2024
فن وثقافة

في لقاء المنارة بقرطبة بين شعراء من المغرب وإسبانيا.. حين ينتصر الشعر للحياة ضد الموت

في لقاء المنارة بقرطبة بين شعراء من المغرب وإسبانيا.. حين ينتصر الشعر للحياة ضد الموت جانب من اللقاء
برغم الحزن الجارف الذي كان يعم إسبانيا بعد الفيضانات الخطيرة التي جعلت منطقة فلنسيا منطقة منكوبة حيث انتشرت رائحة الموت بين أرجائها، والذي فرض أجندة جديدة على المسؤولين العموميين والمحليين وكان سببا في إلغاء العديد من التظاهرات، استضافت مدينة قرطبة الإسبانية، في الفترة من 4 إلى 8 نوفمبر 2024، لقاء أدبيا ثريا تحت عنوان "لقاء المنارة: ساحة النور - لقاء الكتاب المغاربة والأندلسيين"، نظمته جمعية الصداقة الأندلسية المغربية وجمعية كتاب الأندلس.. لقد انتصر الحب على الموت.

كانت قليلة في تعداد الزمان، لكنها باذخة في المعنى والحب، تلك الأيام التي قضيناها كمبدعين مغاربة في قرطبة، والتي قُدِّم فيها مجهود جبار لأنطولوجيا خيرة الشعراء المغاربة والإسبان في تنسيق ثوب محبة شعرية جميلة قادها خوسي صاريا وثريا مجدولين، ونسج خيوطها شعراء من هنا وهناك.

هذا الحدث الشعري لم يكن مجرد مناسبة أدبية، أو رحلة عبور بين ضفتي المتوسط، بل فرصة لتعزيز الحوار الثقافي وبناء جسور التفاهم بين ثقافتين تشتركان في إرث ممتد بالطول والعرض في وشم الجغرافيا والتاريخ، حيث للشعر مفعول السحر في إقامة الجسور بين الضفتين، بدل نصب الأسوار التي تجسد القطائع وتعزز التصورات النمطية التقليدية والجاهزة، وتلك التي لا تملك كفاية منهجية ولا معرفية للتواصل بين الشعوب.

لقد اجتهد الشاعر والناقد الإسباني خوسي صاريا، المتقد حيوية ونشاطا، هناك في بلاد سيرفانتيس، لكي يمهد الأرضية للحوار الثقافي وللجورة الشعرية التي تشبه أكوام ملح وطعام توثق الأواصر الحقيقية لصداقة شعبين، لتقاطع تاريخين في جغرافيا لم تعد ثابتة كما اعتقد بسمارك يوما، وسهر بحدب على تتبع دقيق للأصوات الشعرية المتميزة هنا وهناك، قد نختلف حول تقييم منتوج المنارة لكننا سنأتلف حتما أن العمل المنجز هو ثمرة تعدد أصوات باذخة بين ضفتي المتوسط تنشد الشعر وتتغنى بإيقاعات الانسجام ونسج خيوط محبة الألفة والألاف هنا وهناك، وتعكس صوت أجيال يتردد صداها بين الأندلس والمغرب.

ونجحت الصديقة الشاعرة المتميزة ثريا ماجدولين هنا بالمغرب، بصفتها رئيسة فرع الرباط لجمعية الصداقة الأندلسية المغربية، في نسج خيط شفيف من محبة وشعر بين أصدقاء مبدعين كنا نقرأ لبعضنا دون أن تتاح لنا فرصة واحدة للقاء، وسهرت بحدب ونكران ذات على كافة ترتيبات هذا اللقاء رفقة خوسي صاريا، وقد اكتشفت عن قرب ولأول مرة أن صفاءها الشعري يحضر بقوة في تفاصيل عملها اليومي بتفان مبهر.. اختارت بعناية فريقا من الشعراء في قلبهم متسع للجوار، للألفة، للإنصات، للتواضع في حضرة آلهة الشعر، بلا نميمات صغرى ولا ضغائن ولا أحقاد.. مبدعون بصمت وبلا ضجيج، بينهم الشعراء عزيز التازي، الشاعر والأستاذ الجامعي الذي تسحرك لغته الإسبانية حتى ولو كان قد سُرق منك لسانك، والذي ما تجاوز حد اللعب وفتنة الطفولة وهو على كبر، لكن بسمته لا تخفى حتى وهو يستعد ليشتم كل اليأس المحيط بنا، خبير بجغرافيا قرطبة ودليلنا لجغرافيتها السرية.. وعبد السلام الموساوي الذي له قلب واحد يسكنه الألوف، يراوض الشعر بحكمة الصوفي سواء قُدّ قميصه من قبل أو من دبر، المرتبك دوما مثل طفل وهو في حضرة جمارك الحدود، يحتضن لعبه وقلبه وقصائده، وينسى جواز سفره وساعته ونقوده، ما دام يتقن القبض على جمر الكلمات، ويظل يبتسم كمن سكنته روح هيلانة وقد وهبته تلك الحبة الساحرة التي تجعل الناس يضحكون حتى وهم يرون مآسي ما يحدث بالعالم.. وخالد الريسوني المتواضع أكثر مما يكونه الخجل، الحاد مثل شفرة حلاقة حين يمس فيما يعتقد أنه مبدئي أو معتقدي، لكنه هش مثل قبلة، حنون مثل نسمة هواء عليل، تخنقه الدموع حين يتذكر روح الشياطين ويحاول أن يخفي دموعه، لأن اليساري الثوري لا قلب له، سوى سحر بورخيس وسحر اللسان الأجنبي. 

بالنسبة لي شخصيا، أنا الطارئ على الشعر إبداعا.. لا محبة ولا تخصصا أكاديميا ولا مصاحبة منذ تعلمت المشي على الحبر الرقيق للعبة الكلمات، وجدت في مصادقة هذه الشلة الأنيقة، رفقة بلا جراح، أنس بلا حذر، وبتكاثفنا حُزنا إعجاب كبار الشعراء الإسبان ونقادهم.. 

كان الشعر وكانت المحبة كان الصدق أساس لقاءاتنا وكان الإبداع يقودنا لنتكلم لغة الشعر، ولنتعلم كيف نختلف بسمو..
في قرطبة كانت كل الأزقة تنطق بعبق التاريخ وبذخ الجغرافيا، برغم كل الجراح النرجسية، كانت اللقاءات الشعرية تقودنا للبحث في المؤتلف بغية تعزيزه، ومعرفة المختلف بيننا ليكون دليلنا نحو اختلاف سعيد لا اختلاف شقي، وتلك فضيلة الشعر، وبحفاظ قرطبة على موعدها الشعري برغم مآسي ما حدث في إسبانيا من مآسي الفيضانات، انتصرت للحياة ضدا في الموت ونكاية فيه.