كان يوم الثلاثاء ولا يزال يوما مقدسا لساكنة قرية ابامحمد وجميع الدواوير المجاورة لها. إنه اليوم الأسبوعي الذي تترقبه الساكنة بشغف كبير لقضاء مآربها وللالتقاء بمعارفها. إنه أيضا موعد لاجتماع الأفكار وتبادل المصالح, حيث تُبرم الاتفاقيات وتُعقد المعاهدات في ظلال التفاهم والتفاوض، بعيدا عن تعقيدات المصارف وأروقتها. هناك، تتعانق الصفقات بين الأيدي مباشرة، في سلاسة بديهية تُحاكي بساطة المكان وروحه. والى جانب ذلك، تظل عمليات البيع والشراء هي النبض الذي يُبقي السوق حيا،غايته الاولى والأخيرة، حيث تختلط الأحاديث بالمساومات ويسدل الستار على يوم حافل بالعطاء والتفاعل.
تستوقفني تلك الأيام الذهبية التي عشتها في قلب المنطقة كمدرس، حيث كان عبق الأصالة يسري في كل زاوية. هناك,بين جدران مدرستي المتواضعتين, مدرسة الرواجع ومدرسة النواصر، كنت أعيش لحظات لا تُنسى وأصبحت جزءا من حياة أهل المنطقة البسيطة في ظاهرها، الغنية في معانيها. كان بعض كبار الفلاحين يلجؤون إلي كشاهد أمين على صفقاتهم المالية الكبيرة، تلك التي كانت تتجاوز أجراتي بأضعاف، حتى أنني لم أتخيل يوما أنني قد أرى مثل تلك الأرقام بين يدي.
كنت أخط بيدي في صفحة بيضاء: " السيد فلان اقترض من السيد فلان مبلغا كذا في اليوم الفلاني"، وأحتفظ بالورقة في مكتبي الصغير, حتى يأتي اليوم الذي يعود فيه الرجلان الي مجددا، لتسديد الدين وتأكيد الصفقة. حينها أمزق الورقة بكل بساطة، وكأنها لم تكن، كدليل على الثقة التي كانوا يمنحونني إياها بلا تردد.
لقد كانت تلك اللحظات تعبيرا صافيا عن علاقة مبنية على الثقة العميقة والبساطة النقية. ساكنة تلك المنطقة، رغم بساطتها، كانت تحمل قلوبا نقية ومبادئ راسخة، تجعلني أشعر بالامتنان والتقديرلتلك الأيام التي غدت من أجمل الذكريات.
وكما هي العادة في جميع دواوير المنطقة, كانت الحركة تُشل يوم التلاثاء في " الرواجع" و " النواصر". جميع الرجال يقصدون السوق بدون استثناء. وغالبا ماكانت النساء هن اللواتي يقبعن في الدوار و لايرافقن أزواجهن إلا في بعض الحالات. لقد كانت المرأة ملزمة في الغالب بالقيام بعدة أعمال طيلة الأسبوع. حيث تعيش يوما يتكرر بتفاصيله الثقيلة التي تنسج خيوط التعب من كل جزء من جسدها وروحها. مع شروق الشمس تبدأ رحلتها اليومية بالتنقيب عن الحطب، حيث تخطو بخطوات مُثقلة نحو الجبال لتجمع ما يدفئ البيت وما يُخبز به الخبز. وفي بعض الأحيان تكون محملة صبيها على ظهرها وهي تقوم بهذه الأعمال. ثم تجلس لتعجن بأصابعها المتعبة الخبز ولقمة اليوم التي ستسد جوع العائلة.
وحينما يشتعل الفرن التقليدي تشرع في طهي الخبز وعيناها تدمعان من كثرة الدخان المخيم على المحيط. ثم تهيئ الفطور للجميع ما عدا نفسها.
بعد الفطور تبدأ مهمة غسل الأواني التي لا تنتهي بعد كل وجبة، تليها عملية سقي الماء وهذه هي الطامة الكبرى.
حياة، زوجة السي أحمد الذي كان متطوعا كمنظف وحارس للمدرسة، كانت تجسد قوة وصبر المرأة القروية في غياب أبسط الضروريات. فكانت لا تهدأ طيلة اليوم. تتنقل بين أشغال البيت وتربية الأطفال. ثم تخرج يوميا برفقة نساء الدوار في رحلة بحث مضنية عن الماء، تقطع مسافات طويلة لتملأ بعض البراميل التي يحملها الحمار ثم تعود لتكمل بقية الأعمال المنزلية. كانت هذه الرحلة اليومية تستغرق ساعات طويلة. ومع ذلك لم تتوان عن إعداد وجبة خاصة لنا نحن المدرسين كل يوم.
أقف بانحناء احتراما وتقديرا لهذه المرأة الصبورة. ولكل النساء القرويات التي تكرس حياتها لخدمة أسرتها والمحيطين بها متناسية نفسها واحتياجاتها.
وإن أنس، فلن أنسى ذلك اليوم الذي كانت فيه إحدى سيدات الدوار تجمع بعض الأعواد بالقرب من ساحة المدرسة, عندما نودي علي من طرف التلاميذ وأنا منهمك في تصحيح التمارين:
" أستاذ، أستاذ، إن امرأة السي علي تلد!"..
لقد كانت في شهرها التاسع ومع ذلك لم تتخلف عن القيام بأشغالها المعتادة حتى فاجأها ألم الولادة في الخلاء. وهناك في تلك الأرض المفتوحة وُلد سعيد, الذي شاهدته لاحقا يلعب في الدوار. هذه القصة الغريبة وثقتها بالتفصيل في مقالة سابقة ولن أنسى تفاصيلها ما حييت. كما أنني لن أنسى وقع السوق ودوره و أهميته.
في قلب القرية كان السوق ينبض بالحياة كل أسبوع, حيث يتجمع سكان القرية والدواوير المجاورة في لقاء يتجاوز مجرد التبضع. إنه مكان تختلط فيه الحياة اليومية بالطقوس الاجتماعية العريقة.
يمتد السوق على مسافة شاسعة وزعت بدقة. فلكل منتوج مكانه الخاص. ركن للخضر والفواكه, وآخر للدجاج والبيض. وهناك حيث تعلو أصوات المساومات هو ركن الماشية، وحيث تتجمع النسوة ركن الملابس والمستلزمات المنزلية. ويستقر الجزارون في زاوية خاصة يعرضون فيها اللحوم الطرية، دون أن ننسى طبعا الحيز الكبير المخصص للحبوب والقطاني التي تزخر بها المنطقة بامتياز. يحاديها مكان خاص تربض فيه الدواب و تستريح من عناء السفر وحمل الأثقال وتستعد في نهاية اليوم للعودة من جديد الى دواويرها.
لكن وسط هذا الزخم, ثمة مكان لا يمكن تجاهله, بل يُعرف عن بعد. إنه مكان الأكل. يمكنك رُؤية الدخان الكثيف المتصاعد نحو السماء من مسافة بعيدة، يحمل معه روائح شهية تناديك. لهذا الغرض نُصبت أخيام لاستقبال الزبائن وتقدم ما لذ وطاب من أطباق اللحوم المتنوعة. تحت سقوف هذه الخيام لا تقتصر الأمور على الوجبات اللذيذة وكؤوس الشاي المنعنع، بل تتحول الى مكان لعقد الصفقات والاتفاقات، سواء التجارية أو العائلية حيث تتم الترتيبات للزواج مثلا. " حديث ومغزل".
غالبا ما يكون الطعام وسيلة للتواصل. إنه خليط من هذا وذاك في هذا اليوم الذي لا يمكن تجاهله أبدا. هذا السوق الذي يعكس روح القرية وتقاليدها العريقة.
وبعد زيارتي الأخيرة للقرية بعد عدة سنوات وجدتني أمام مشهد مختلف تماما عما عهدته. عُمرانها تغير بشكل لافت، وكأن الزمن قد غزل بين جدرانها حلة جديدة. فيما بقيت الروح القديمة للقرية تنبض في زواياها. وتجاذبنا الحديث مع بعض الأصدقاء حول تاريخ فريق "نجم الشباب" الذي كان له دور كبير في توحيد سكان القرية حوله. فقد كان أكثر من مجرد فريق رياضي، بل كان رمزا للفخر والاعتزاز لكل فرد في المنطقة. في كل مباراة، كانت القرية بأكملها تحتشد خلف الفريق، يشاركونه الحماس والتشجيع وكأنهم لاعبون على أرض الملعب. بل إن صيته تجاوز حدود القرية وبلغ مدنا عديدة في المغرب، حيث أصبح "نجم الشباب" اسما يذكر بفخر وتقدير في الساحة الرياضية الوطنية.
لقد كان لي الشرف أن أكون جزءا من تلك الحقبة الذهبية, حيث كانت الروح الجماعية والتفاني في اللعب تعكس أصالة أهل القرية وقيمهم. لكن, كم تحسرت عندما علمت أن الوضع الرياضي الحالي لم يرق الى الطموح الذي كنا نسعى لتحقيقه. فبدلا من الاستمرار في البناء على تلك النجاحات, شهدت الرياضة في القرية تراجعا، مما يثير في النفس تساؤلات حول مستقبل هذا الإرث العظيم.
تصادفت زيارتي مع موعد السوق الأسبوعي، ذلك السوق الذي كان بمتابة شريان الحياة النابض للساكنة. غير أن ما استخلصته من حديثي مع نفس الأصدقاء هناك، كان شيئا مختلفا. رأيت في عيونهم استياء مكتوما كأنما يُغلفه قلق عميق على مستقبل هذا المهرجان الأسبوعي الذي لم يعد كما كان. برغم أهمية السوق ودوره الكبير في حياة القرية، إلا أن التطورات العمرانية التي عرفتها المنطقة بدأت تُلقي بظلالها الثقيلة عليه. بات واضحا أن السوق يقف الآن عند مفترق طرق: بين الحفاظ على طبيعته الأصلية التي تربط بين الناس وبين ضرورة التكيف مع التحولات التي تجتاح المدينة. الأمر بات يتطلب حلا لا يمحو الماضي و لا يتجاهل الحاضر. حلا يحفظ للسوق مكانته و يواكب التطورات في آن واحد. إنها معادلة دقيقة, تحتاج الى رؤية عميقة تدرك أهمية التوازن بين الأصالة والتقدم.
ورغم ما شهدته القرية أو المدينة كما يحلو للبعض تسميتها, من تطور عمراني هائل وازدياد سكاني ملحوظ, فإن دور المرأة فيها لم يتغير. لا تزال تتحمل نفس الأعباء بكل تفان و إخلاص، كما كانت تفعل منذ أجيال. هي العمود الفقري للأسرة والمجتمع، تزرع الأرض بيديها وتربي الأجيال بعناية و تمثل رابطا حقيقيا بين الماضي والحاضر.
وعلى الجانب الآخر، تبقى دار لقمان على حالها فيما يخص البنية التحتية. فالطرق التي تربط القرية ببقية المناطق مازالت وعرة وبعيدة عن التطور.
هنا يطرح السؤال: متى سيتم فعلا فك هذا الحصار الذي يطوق هذه المنطقة الغنية بمواردها الفلاحية وثرواتها الطبيعية؟
متى ستتاح للمرأة فيها الفرصة الحقيقية لتسخير قدراتها بشكل يليق بعطاءاتها في بيئة تدعم تقدمها وتسهل حياتها؟
ومتى سيحين ذلك اليوم الذي يُعاد فيه الاعتبار لقطاع الرياضة, فيتحول من مجرد نشاط هامشي الى ركيزة أساسية في بناء الأجيال؟ ومتى سيُبعث فريق كرة القدم من رماد النسيان, ليعيد وهج "نجم الشباب" الذي كان ينبض في قلوب أبناء القرية ويضيئ سماء مدن بعيدة؟
أيعقل أن يبقى إشعاع الأمس مجرد ذكرى، ونحن نشهد تلاشي الأحلام التي صنعها هذا القريق بعرق وجهود لا تنسى؟ متى سنرى فريقا يعيد للقرية مجدها الرياضي ويجمع أهلها مرة أخرى حول شغف كروي يغذي فيهم روح الوحدة والاعتزاز؟