الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: ترجمة الثقافة العربية إلى اللغات الأوروبية والصراع على المشروعية

عبد السلام بنعبد العالي: ترجمة الثقافة العربية إلى اللغات الأوروبية والصراع على المشروعية عبد السلام بنعبد العالي
هاجس "الشهادة" يتفوق على هموم التلاقح والاكتشاف

ليسمح لي القارئ بأن أنطلق من واقعة سبق لي أن كتبت عنها في حينها: فخلال إحدى دورات معرض فرانكفورت للكتاب، خصّ أحد المستعربين الألمان الأكفاء، الذي يُعدّ من بين من لهم دراية واسعة باللغة العربية، وباعٌ طويل في نقل الثقافة العربية إلى اللغة الألمانية، خصّ إحدى الصحف العربية باستجواب دالّ من بين ما جاء فيه اعترافه شاكيا: "لم أتلقّ مكالمة شكر واحدة على ما بذلته لفترة طويلة تجاوزت العقود الثلاثة".

تطرح شكوى المستعرب الكبير أسئلة عدة لعلّ أهمّها: لو كان المترجم الألماني نقل أعمالا عن لغات أخرى غير عربية، عن اللغة الإنكليزية أو عن اللغة الفرنسية على سبيل المثل، هل كان سينتظر كلمات شكر؟ وفي حال الجواب نفيا عن هذا السؤال، لماذا تُطرح هنا بالضبط مسألة الاعتراف بـ"الجميل"، وضرورة تقديم الشكر؟ وما سرّ إحساس المستعرب الألماني بأنّه، عندما ينقل النصوص العربية، فإنّه يسدي إلى الناطقين بلغة الضاد معروفا ينبغي أن يكافأ عليه معنويا على الأقل؟

غوته والترجمة

ربما لن تتيسّر لنا الإجابة عن هذه الأسئلة ما لم نخرج عن هذا الإطار الضيّق ونلجأ إلى مقارنة هذا الموقف، ليس بموقف مترجم خارج الثقافة الألمانية، وإنّما بموقف منظّر ألماني لمسألة الترجمة لعلّه يلقي لنا بعض الأضواء على التحوّلات الكبرى التي عرفتها علاقات القوّة بين اللغات في عصرنا، والتحوّل الكبير الذي لحق مفهوم الترجمة والدور المنوط بها.

لا شكّ أن الذهن ينصرف هنا إلى غوته صاحب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". مما يُنقل عن المفكر الألماني الكبير أنه في سنة 1808، وفي خضمّ الاحتلال النابوليوني، وعندما عزم بعض المثقفين وضع منتخب لأحسن الأشعار الألمانية كي تكون في متناول عامّة القرّاء، طلبوا مشورته ليرشدهم إلى القصائد الدالة في هذا المضمار، فكانت نصيحته الوحيدة التي أسداها إليهم هي أن يضمّوا إلى الديوان أيضا ترجمات ألمانية لقصائد أجنبية، بحجّة أنّ تلك الترجمات تشكّل، في نظر صاحب "الديوان الشرقي"، إبداعات لا تنفصل البتّة عن الأدب الألماني، وبحجة "أن الشعر الألماني مدين بأهم أشكاله للأجنبي، وهذا منذ ميلاده".

لا يعتبر غوته إذن أن الترجمة "إنقاذ" للنصوص المنقولة واعتراف بها، وإنّما يرى فيها بالأولى "تطعيما" للثقافة الناقلة، يقول: "عندما تذبل الآداب القومية فإنّها تنتعش وترى الحياة من جديد من طريق الآخر". فما يهمّه في الترجمة هو كونها أداة "إنعاش" للأدب واللغة. بفضل الترجمة تنفصل اللغة عن نفسها لتستنبت في غير موطنها. على هذا النحو، عندما تنقل اللغة الألمانية الأدب العربي على سبيل المثل، فإن غوته لا يرى في ذلك ارتفاعا بهذا الأدب نحو الكونية، وإنما مساهمة في إرساء أسس الكونية ذاتها، أو، بتعبيره هو، فتحا لعصر "الأدب العالمي" Weltliteratur أي "العصر الذي لا تكتفي فيه الآداب بالتفاعل في ما بينها، بل تدرك وجودها هي في إطار تفاعل ما يفتأ يتزايد".

وهكذا ستتيح الترجمة للغة الألمانية أن تحيا في ذلك الأدب وتنتعش في أحضانه. ها هنا لا يعني تفتّح اللغة على خارجها ابتلاعا للآداب الأجنبية وتدجينا لها. إنه، على العكس من ذلك، انفتاح على الآخر، وخروج للهوية عن ذاتها بحيث يصبح إدراكها لذاتها إدراكا متحوّلا مشروطا بتفاعل مع آخر لا ينفكّ يتحوّل. وما يهمّنا هنا هو أنّ غوته يرى أن الترجمة هي أداة ذلك الخروج.

المترجم- المنقذ

على العكس من هذا الموقف تماما، ينبني موقف المستعرب المعاصر. فهو يعتبر أنّ في نقل النصّ العربي نوعا من مدّ يد المساعدة بهدف جرّ الآخر نحو الذات، والارتقاء باللغة المنقولة إلى مستوى الكونية. لا عجب إذن أن يتوقّع المترجم-المنقذ جزاء واعترافا، وأن تغدو مسألة الترجمة قضية سيادة لغوية، هذا إن لم نقل إنّها عنده مسألة سيادة وكفى.

قد يقال إنّنا لا يمكن اليوم أن ننفي علاقات القوّة هذه بين اللغات وبين الثقافات. فالترجمة، بعيدا من أن تكون تبادلا أفقيا وانتقالا مهادنا، ونقلا متماثلا للغة إلى أخرى، فإنّنا لا يمكن فهم آليتها إلا كـ"تبادل لامتكافئ" يتمّ في عالم شديد التدرّج والاختلاف. إنها شكل خاص لعلاقات الهيمنة التي تتمّ في الحقل الأدبي الدولي، ومن ثمة هي مدار صراع من أجل المشروعية، أي أنها إحدى الطرق الرئيسة لتكريس أسماء الكتّاب، والإعلاء من النصوص.

ما يلزم تأكيده هنا هو أن السيادة التي تحدثنا عنها لا تتحدد في هذا النطاق تحديدا سياسيا أو اجتماعيا. ذلك أن الوضع الذي يحتلّه أدب معيّن من وجهة النظر التي تهمّنا هنا، يرتبط ارتباطا وثيقا بقيمة اللغة التي كتب بها أو نُقل إليها، وليس بقوة الدولة التي ينتمي إليها المؤلف أو المترجم. هذه كانت، في وقت من الأوقات، حال اللغة الألمانية وحتى الإنكليزية مع اللغة الفرنسية، لنتذكر أن أديبا مثل وليم فوكنر كان محتاجا لأن يُنقل إلى اللغة الفرنسية كي يُعترف به في بلده. فتراتب اللغات لا يهمنا هنا من حيث ينبني على النفوذ السياسي، وإنما من حيث ما يطلق عليه بعض تلامذة عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو: "النبالة الأدبية".

هناك إذن تراتب للغات، ولغات بعينها هي التي تجسّد الأدب بامتياز. ولا يتمّ الاعتراف بانتماء النص إلى"الأدب"، إلا متى عمِل "المركز الأدبي" على ترجمته ونشره.

تعمل الترجمة، في ميدان الأدب العالمي، كسلاح من أجل النضال من أجل المشروعية الأدبية، وكذلك من أجل تكريس اسم أو نصّ بعينه. فبالنسبة إلى كاتب ينتمي إلى فئة اللغة المهيمَن عليها أدبيا، يكون التمكّن من الترجمة، نضالا من أجل الوجود كعضو شرعي في الجمهورية العالمية للآداب، بهدف بلوغ المراكز، وولوج المؤسسات النقدية المكرِّسة، كي يظفر بقراءة من يسنّون أن ما يقرؤونه يستحق القراءة، بل هو ما يستحقّ القراءة. هذا هو الدور الذي يمكن لترجمة الثقافات أن تلعبه في نظرنا. وهو دور لا بدّ لناقلي الثقافة العربية إلى لغات أخرى أن يأخذوه في الاعتبار، لكن ذلك ينطبق أيضا، وبالأحرى، على المثقفين العرب أنفسهم.

الترجمة أداة اعتراف؟

سبق لأحد النقاد العرب أن وجه، في هذا الصدد نقدا لاذعا إلى بعض مثقفينا الذين لا ينظرون إلى الترجمة إلا كأداة اعتراف، فيعملون كل ما في مستطاعهم كي "تُنقل آثارهم إلى إحدى اللغات الغربية، كي تصدر في خمس مئة نسخة من قبَل دور نشر صغيرة، مناضلة أو متعاطفة في الغالب، تأخذ نصوصهم على أنها شهادات لا على أنها إبداع فكري أو فني".

من بين الأمور الكثيرة التي يمكن أن تستوقف قارئ هذه الفقرة كون اللغات الغربية، إذ تنقل بعض أعمال مثقفينا، فليس لقيمتها الفنية أو الفكرية، وإنّما لأنها "شهادات". فقيمة تلك الأعمال في أعين مترجميها قيمة توثيقية تشهد لواقع حال، وليس قيمة فنية تدل على عظمة إبداع.

ربما لهذا الاعتبار يمكن أن نفهم لماذا لا يولي المترجمون الغربيون اليوم كبير عناية للأعمال الفكرية، بل وحتى النقدية التي يبدعها المثقفون العرب. فلو أنّك قست ما ينقل إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية من إنتاجات عربية لوجدت أن النسبة العالية، إن لم تكن المطلقة من تلك المترجمات، هي للأعمال الروائية. لسنا نعني بذلك تبخيسا للعمل الروائي، كل ما نريد قوله هو أنه حتى الروايات ذاتها لا تعني المترجمين الغربيين من حيث هي روايات وإبداعات فنية، إنها لا تُنتقى لجانبها الفني، كأن "يكتشف"مترجمٌ عملا لم يسبق أن انتُبه إليه رغم قيمته الفنية، كلا، وإنما تترجم لجانبها التوثيقي إن صحّ القول. فهي ليست روايات بقدر ما هي "شهادات"(الأمر مماثل لذلك في ما يتعلق بالموسيقى التي يُهتم بها كـ"فولكور"، أو كما يحلو لبعض المؤلفين الموسيقيين الغربيين أن يقولوا: كـ"مادة موسيقية"). لا عجب، والحالة هذه، أن يغدو الإنتاج الروائي "حدثا" لكي ينال اهتمام المترجم. لذا فهو لن يوليه انتباهه إلا بعد أن يتناوله الإعلام، إما على إثر نيل جائزة، أو منع كتاب، أو ملاحقة كاتب.

بهذا المعنى، لا يمثل الإنتاج الفكري والفني للمثقفين العرب في نظر هؤلاء المترجمين أعمالا "أجنبية" تفتقت عنها قريحة مبدعين ينتمون الى ثقافة أخرى غريبة عنهم Etrangère، وإنما شهادات حية عن حياة كائنات غريبة الأطوار Etranges.

 

عن مجلة "المجلة"