دأبَ الرئيس التونسي قيس سعيد، منذ تنصيب حكومة نجلاء بودن في 11 أكتوبر 2021، على إجراء إقالات وزارية جزئية، بما في ذلك تعيين رؤساء حكومات جُدد من دون المساس ببقية أعضائها. ولكن التعديل الأخير يُعتبر الأوسع في نوعه، وقد شملَ وزارات سيادية على غرار الدفاع والخارجية.
وحسب مقال مطول للكاتب الصحافي التونسي ياسين النابلي، فقد اختارَ الرئيس سعيّد تغيير حكومَتِه أسابيع قليلة قبل الانتخابات المُزمع إجراؤها في 6 أكتوبر 2024. وكعادتِها لم تُوضّح رئاسة الجمهورية أسباب الإقالة ووَجاهَة التعيينات الجديدة وبرنامج الحكومة المُقبل.
ولكن نستشفّ من الكلمة التي ألقاها الرئيس سعيّد على هامش تنصيب أعضاء الحكومة الجدد، الضّغط الانتخابي الذي تَعيشه السلطة الحالية رغم الإقصاء الممنهج والعلني للعديد من المترشحين. كما أضاءت كلمة الرئيس على المآزق الداخلية الهيكلية التي يعيشها النظام، بخاصة حالة التّنَافر بين الخطاب الرئاسي ومؤسّسَات التنفيذ الإداري والسياسي، ويَظهر هذا من خلال عدم استقرار التركيبات الحكومية منذ 25 يوليوز 2021، وضُعف مقدرة السلطة المُمَركَزة فرديًّا على بناء نسيج من الولاءات التّحتية الكفيلة بتسهيل الهيمنة على كامل المجال السياسي، وتحويل أمثُولات الرئيس وقناعاته إلى برامج فعليّة. هذا التناقض الداخلي الذي يَعِيشه النظام، أصبحت فيه الإقالات والتعيينات الدورية تُعطي انطباعا بأنها حلقة مفرغَة تدور على نفسها، ولكنها تحوّلَت مع الوقت إلى استراتيجيا تُستخدم انتخابيا وسياسيا لإعفاء الرئيس من مسؤوليته السياسية وتقديم الفاعلين الثانويين في النظام كقَرابين أزمات.
خطاب “أولوية الأمن القومي” في سياق انتخابي
من البديهي أن خطاب الحفاظ على الأمن القومي ورعايته، في سياق المنافسة الانتخابية، لا يَخدم سوى صاحب السلطة الذي يرأس الأجهزة الأمنية. لذلك استعرضَ الرئيس سعيّد التحوير الحكومي بوصفه ضرورة اقتضاها الأمن القومي في المقام الأول، بسبب اختراقات مستمرة ومؤامرات تُحاك من “خلف الستار” على حدّ تعبيره. وشدّد الرئيس أيضا على أن الأمن القومي “فوق كلّ اعتبار” ومن أجله كل شيء يصبح مباحًا (بما في ذلك التحقيق الأمني مع مرشّح رسمي للانتخابات) ولا يُمكن الاستناد إلى الحِياد الانتخابي كحجّة لعدم إنجاز تحوير حكومي واسع عشية الانتخابات والدعاية إلى أن النظام بصدد تطهير نفسه من الداخل واسترجاع نقائه السياسي والفكري.
من البديهي أن خطاب الحفاظ على الأمن القومي ورعايته، في سياق المنافسة الانتخابية، لا يَخدم سوى صاحب السلطة الذي يرأس الأجهزة الأمنية. لذلك استعرضَ الرئيس سعيّد التحوير الحكومي بوصفه ضرورة اقتضاها الأمن القومي في المقام الأول، بسبب اختراقات مستمرة ومؤامرات تُحاك من “خلف الستار” على حدّ تعبيره. وشدّد الرئيس أيضا على أن الأمن القومي “فوق كلّ اعتبار” ومن أجله كل شيء يصبح مباحًا (بما في ذلك التحقيق الأمني مع مرشّح رسمي للانتخابات) ولا يُمكن الاستناد إلى الحِياد الانتخابي كحجّة لعدم إنجاز تحوير حكومي واسع عشية الانتخابات والدعاية إلى أن النظام بصدد تطهير نفسه من الداخل واسترجاع نقائه السياسي والفكري.
لم يخفِ الرئيس ارتِيابَه من منافسيه في الانتخابات الرئاسية الذين يعملون على “تأجيج الأوضاع من أجل غايات انتخابية مفضوحة”، ورغم أنّه يُقاسم جُلّهم -ضمنيا- انتقادهم لتعطّل التسيير العادي لدواليب الدولة، إلا أنه يُحمّلهم مسؤولية هذه العطالة المؤسساتية، بالاستعانة بشركائهم من داخل السلطة نفسها الذّين تحوّلوا إلى عناصر متواطئة مع “المنظومة” القديمة.
ومن أجل الهدف نَفسه، استعَادَ الرئيس خِطاب الدّولة القوية والمستمرّة، ليُشير إلى أنه أكثر حرصًا عليها وعلى استدامتها من مترشّحين آخرين باتوا يُوصَفون في مواقع التواصل الاجتماعي بأنهم “رِجال دولة” مُتّزِنين، على غرار المرشح العياشي زمَّال، أو منذر الزنايدي الذي ما زال يخوض نزاعا انتخابيا أمام المحكمة الإدارية من أجل الترشح، والذي يُعتَبر من أكثر الوجوه المحسوبة على الدولة القديمة. ويُوصَف في الخطاب العام السائد بأنه سَلِيل الإدارة التونسية التي نشأَت في ركاب الدولة الاستقلالية.
هذا الخوف من بروفايل المترشح الذي تُنسَب إليه فِكرة الانتماء للإدارة القديمة، “وِلْدْ الإدَارَة” مثلمَا يُطلَق عليه في العامّيّة التونسية، يُفَسّر المنطق الذي تشكّلَت من خلالِه الحكومة الجديدة التي تضمّ في معظمها رؤساء مصالح إدارية تمت ترقيتهم إلى وزراء في نفس إداراتهم، وهكذا يُرجَى من تعيينِهم حيازَتهم على معرفة مسبقة بدواليب الإدارة وملفاتها “العالقة”، وبعضَ الوُزرَاء تَمَّ استقدامهم بوصفهم خبراء قانون أو إدارة في بعض المجالات وليس بالضرورة لديهم خِبرة سابقة في التسيير، ولكن يُتوَقّع منهم أن يكونوا أكثر امتثالا واجتهادًا في تحويل أفكار الرئيس إلى منجزَات فعليّة.
نظام الفرد يُواجه مأزق إنتاج الولاء الإداري والمحلّي
رغم أن الرئيس سعيّد يُجيد إنتاج لغة مَلحَمية وتحريضيّة، تَمتاز بقدرتها على الإخفاء والتمويه، وتتغذّى من طاقتها التلميحية الفضفاضة، إلا أنه يُمكن قراءة المسكوت عنه داخلها، والمَطمور وراء الخِداع البلاغي. وهنا تُشير كلمة الرئيس سعيّد الأخيرة بوُضوح إلى أزمة التشكّل الداخلي للنظام السياسي الحالي، الذي يَبدو في حالة عجز عن إنتاج الولاَء، بخاصّة في مراكز التسيير الإداري المركزي وعلى مستوى السّلَط الجهوية والمحلية. ويُفسِّر الرئيس هذا العَجز بالاحتواء والاخترَاق اللذيْن مارستهُمَا “المنظومة القديمة” على عدد غير قليل من الذين تم تعيينهم في ظل سلطة 25 يوليوز، كمَا يُرجِعه -أحيانا- إلى انحراف أخلاقي مُتعَلّق بحالة الإغواء التي تُمارِسها السلطة على أصحابها، ويُفسّره -أحيانا أخرى- بعجز نُخَب الحكم “الجديدة” على التّماهي مع النظام الدستوري والسياسي “الجديد”، وهو ما أدّى بها في نهاية المطاف إلى “الاستلاب الفكري” و”الموت السريري”.
رغم أن الرئيس سعيّد يُجيد إنتاج لغة مَلحَمية وتحريضيّة، تَمتاز بقدرتها على الإخفاء والتمويه، وتتغذّى من طاقتها التلميحية الفضفاضة، إلا أنه يُمكن قراءة المسكوت عنه داخلها، والمَطمور وراء الخِداع البلاغي. وهنا تُشير كلمة الرئيس سعيّد الأخيرة بوُضوح إلى أزمة التشكّل الداخلي للنظام السياسي الحالي، الذي يَبدو في حالة عجز عن إنتاج الولاَء، بخاصّة في مراكز التسيير الإداري المركزي وعلى مستوى السّلَط الجهوية والمحلية. ويُفسِّر الرئيس هذا العَجز بالاحتواء والاخترَاق اللذيْن مارستهُمَا “المنظومة القديمة” على عدد غير قليل من الذين تم تعيينهم في ظل سلطة 25 يوليوز، كمَا يُرجِعه -أحيانا- إلى انحراف أخلاقي مُتعَلّق بحالة الإغواء التي تُمارِسها السلطة على أصحابها، ويُفسّره -أحيانا أخرى- بعجز نُخَب الحكم “الجديدة” على التّماهي مع النظام الدستوري والسياسي “الجديد”، وهو ما أدّى بها في نهاية المطاف إلى “الاستلاب الفكري” و”الموت السريري”.
يَسعَى الرئيس -عموما- إلى تفسير مأزق عدم التماهي والانسِجَام بين الفكرة السياسية العامة وأدوات تنفيذها بوجود انحراف فكري وأخلاقي أصاب المُكلّفين بالمسؤوليات، ولا يَرقى إليه أي شك بوُجود خلل في البرنامج والفكرة والخطة في حد ذاتها. إذ أرجَع الرئيس مُجددّا أزمة انقطاع المياه إلى ضعف استعداد المسؤولين لخدمة الشعب التونسي ولم يُرجِعه إلى ظروف موضوعية مُتعلّقَة بغياب سياسات مائية وطنية واهتراء البنية المائية وعامل الجفاف والتغيّرات المناخية، إلخ. لذلك رجَّحَ الرئيس أن مشكلة غياب الانسجام بين التمثلات الرئاسية وقَنوَات التنفيذ الإداري سيتمّ حلّها بمجرّد تكليف الأشخاص المُنَاسِبين. رغم كل الحجج المعروضة إلا أن الفشل في جعل بعض المشاريع مُمكنة يبدو مُحقّقًا بشدة، إما بسبب “مثاليتِها” أو عدم وُضوحها السياسي أو انعدام الإطار التشريعي الذي يَسمح بتطويرها وتنفيذها، على غرار مشروع الشركات الأهلية الذي ما زال يُراوِح مكانه رغم كل محاولات الضغط التي مارسَهَا الرئيس من أجل إنجاحه بالقوّة وليس بالفعل.
شَدّدَ الرئيس أيضا على ضُعف الاستجابة التنفيذية والسياسية في مستوى السّلط المحلية والجهوية. ويُشكّل هذا المعطى خَسارة فادِحة لرئيس راهنَ على التصورات المَحَلّوية في إنجاز التغيير المَنشود، ضمن ما يُعرَف بنظام البناء القاعدي. وبغض النظر عن إعادة سرد تناقضات هذا النظام ومحدوديّته السياسية والاجتماعية، التي حلّلتها المفكرة القانونية في دراسة وأكثر من مقال، فإن المشكلة الآنية مع هذه السلط القاعدية -والتي عبّرَ عنها الرئيس بوضوح- تَكمن في عدم مبالاتها وحياديتها المُسترابة، وفقدانها للحماسة. وعلى الأرجح يملك الرئيس معطيات حول عودة الولاءات القديمة في صفوف الفاعلين المحليين الذي يتقلدون مناصب مؤثرة (عُمَد، مُعتمدين، ولاة، إلخ). وهو ما يجعل هذه الفضاءات الطَّرَفِية خزّانات انتخابية غير موثوقة إلى حد الآن، ولكنها قد تكون حاسمة إذا استُثمِرت في رصيد أي منافس انتخابي آخر. وطالما أن الرئيس يَعتبر البرلمان الحالي ثمرة لتصورّه القاعدي، فإنه مُنِي بخيبة كبيرة عندما زكّى بعض النواب أحد أبرز منافسيه القادرين على استثارة الولاءات القديمة؛ أي المنذر الزنايدي.
المعركة الاتصالية والخوف من الفشل
رغم أن الرئيس سعيّد أشارَ أكثر من مرّة إلى أن “الدّولة لا تُدار بالفايسبوك” إلا أن صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فايسبوك تُعدّ قناة الاتصال الوحيدة بين الرئيس والجمهور. والرئيس نفسه ونظامه يدركون الدور الحاسم الذي لعبَته صفحة الرّئاسة في الدعاية والتسويق لخُطب الرئيس وزيارَاته وقراراته السياسية. لذلك كرّر الرئيس، في الآونة الأخيرة وخلال التحوير الوزاري، الإشارة إلى وجود صفحات فايسبوكية تُدَار من الخارج والداخل ومرتبطة برهانات انتخابية. وفي هذا السياق يمكن القول أنه أصبحَ من اليسير ملاحظة مِثل هذه الصفحات التي تحظى بعلامة الإشهار، والتي تُنتِج محتويات معارضة لسياسات الرئيس وداعية إلى عدم تجديد الثقة فيه يوم 6 أكتوبر، ممّا يشير إلى وجود معركة اتصالية غير مرئية المصادر ساهمت في إرباك سلطة طالما راهنت على قدرتها التعبوية عبر وسائط الميديا الاجتماعية الجديدة، وسَعَت إلى تهميش وتدجين الوسائط الإعلامية التقليدية أو قَمعِها وإسكاتها.
رغم أن الرئيس سعيّد أشارَ أكثر من مرّة إلى أن “الدّولة لا تُدار بالفايسبوك” إلا أن صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فايسبوك تُعدّ قناة الاتصال الوحيدة بين الرئيس والجمهور. والرئيس نفسه ونظامه يدركون الدور الحاسم الذي لعبَته صفحة الرّئاسة في الدعاية والتسويق لخُطب الرئيس وزيارَاته وقراراته السياسية. لذلك كرّر الرئيس، في الآونة الأخيرة وخلال التحوير الوزاري، الإشارة إلى وجود صفحات فايسبوكية تُدَار من الخارج والداخل ومرتبطة برهانات انتخابية. وفي هذا السياق يمكن القول أنه أصبحَ من اليسير ملاحظة مِثل هذه الصفحات التي تحظى بعلامة الإشهار، والتي تُنتِج محتويات معارضة لسياسات الرئيس وداعية إلى عدم تجديد الثقة فيه يوم 6 أكتوبر، ممّا يشير إلى وجود معركة اتصالية غير مرئية المصادر ساهمت في إرباك سلطة طالما راهنت على قدرتها التعبوية عبر وسائط الميديا الاجتماعية الجديدة، وسَعَت إلى تهميش وتدجين الوسائط الإعلامية التقليدية أو قَمعِها وإسكاتها.
باتت السلطة الحالية تُدرك القصور الدعائي في التسويق لمنجزاتها الاجتماعية والاقتصادية -حتى وإن لم تكن موجودة فعلا- ويُعدّ هذا القصور أحد مظاهر الهشاشة الذي يمكن أن يَستغلّه ضدها منافسيها في الانتخابات الرئاسية، لذلك يَلوح الرهان الاتصالي كبيرا بخاصة في ظل وجود منافسين يملك بعضهم بلا شك قدرات لا يُستَهان بها في هذا المجال. ويظهر على السطح القلق الرسمي من ضعف التسويق للـ”منجزات” في كلمة تنصيب الحكومة الجديدة التي افتخر خلالها الرئيس بإنجازات اقتصادية؛ على غرار تحسّن احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي والتحسّن الطفيف في نسبة النمو، وبغض النظر عن أن هذه “الإنجازات” المروّج لها مفرغَة من أي معنى تغييري في الاقتصاد والمجتمع، وتعكس خواءً اقتصاديا مستمرّا لدى نخب الحكم، إلا أن الرئيس استخدمَها في إطار الرد على خصومه السياسيين قائلا: “هناك نجاحات ونجاحات قادمة إن شاء الله بناءً على اختياراتنا الوطنية وليس بناءً على إملاءات خارجية لن نقبل بها…من كان يَعتقد أنه يستطيع إرباك الشعب التونسي من الخارج عن طريق الأراجيف والأكاذيب والادعاءات. فليعلم أيضا جيّدا أن الشعب التونسي أظهر من النضج والوعي ما يكفي لإحباط مؤامراتهم”.