الدكتور أنور الشرقاوي منذ المدرسة الإبتدائية وفي سنوات مراهقتي، حينما كانت الأحلام تتداخل مع ضباب المستقبل، كنتُ شابًا مفتنا بسحر العلوم الطبيعية، وعاشق لأبيات لشعر العربي الجاهلي خلال المستوى الثانوي.
كل ورقة شجر كانت تهمس لي بالنزر القليل من أسرار الحياة، وكل نجم متلألئ كان ينشد لي أبياتًا تدفئء الدم المندفع في شراييني.
لكن أمام متاهات علوم الرياضيات، ارتأى أمامي عالم غامض، عالم فيه مصطلحين، غامضين وساحرين، جاءا ليزعزعا أمن روحي الحالمة: الجيب وجيب التمام. Sinus et cosinus
هذه المنحنيات ، التي كانت تشبه موجات خفية، كانت تتراقص على السبورة السوداء، كما تتراقص خطوط القدر.
كانت تهمس لي بمقطوعة رياضية، سيمفونية صامتة، حيث تحمل كل نقطة، كل زاوية، معنى عميقًا.
مأسورًا بتلك الدوال والوظائف العلمية، كنت أتأملها كما يتأمل المرء الأفق، بفضول ممزوج بحذر، باحثًا عن فهم طبيعتها الداخلية، ورقصتها الأبدية على الدائرة المثلثية trigonométrique
الجيب sinus، ذلك الرفيق الصامت، كان يرتقي ببطء نحو السماء، ليعود بعدها بنعومة لا متناهية، بينما كان جيب التمام cosinus، الحليف الوفي، يتبع خطواته بثبات، دائمًا على استعداد لمرافقة شقيقه عن كثب.
معًا، كانا حارسين لتناغم خفي، حقيقة رياضية، وإن كانت تتجاوز إدراك الشاب في إبان دراسته الثانوي، لكنها أشعلت في داخلي فتنة متزايدة.
ورغم أنني كنتُ طالبًا متوسطًا في الفيزياء والرياضيات، إلا أن جمال هاتين الدالتين الرياضيتين، شبه الغامضتين، أشعل في داخلي شغفًا لم أعهد مثله.
كنت أرى في منحنياتهما نبض الحياة نفسها، نبضة سرية تفتح لي ليس فقط عالم الأرقام، بل أيضًا عالم القلب والروح.
الجيب وجيب التمام sinus et cosinus، في رقصتهما الأبدية، كانا يبدوا لي أنهما يكشفان لي أن وراء كل رقم، كل صيغة، تختبئ حقيقة أعمق، اتصال خفي بين الإنسان والكون.
وهكذا، دون أن أدرك مدى تأثيرهما في تلك اللحظة، أثرت هاتان الدالتان في مسيرتي التكوينية والمهنية.
كانتا أولى خطواتي في رحلة قادتني إلى عالم الطب، حيث وجدت منحنيات أخرى لأفك شيفرتها، وأسرارًا أخرى لأستكشفها.
نبضات القلب على مخطط كهربية القلب ECG، تذبذبات صوتية في التشخيص الطبي بفضل الموجات فوق الصوتية.
كل هذه التقنيات كانت تحمل في طياتها صدى الجيب وجيب التمام sinus et cosinus، هؤلاء الرفاق من زمن مضى، الذين رافقوني في طريق العلم والحياة.
وهكذا، تحول ذلك الشاب الذي كنتُه، والذي أسره سحر دالتين رياضيتين بسيطتين، إلى طبيب.
حتى في غرفة الأشعة، حيث تكشف كل صورة عن جزء من الخفي، لم أستطع إلا أن أفكر أن الطب، في النهاية، ليس سوى استمرار لتلك الرحلة الأولى: رحلة البحث عن تناغم سري، حيث يلتقي الجيب وجيب التمام sinus et cosinus، العلم والشعر، الحياة والموت، في رقصة أبدية.
