الجمعة 18 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

سعيد الكحل: أوروبا بين فكّي التطرف اليميني والتطرف الإسلاموي(3/3)

سعيد الكحل: أوروبا بين فكّي التطرف اليميني والتطرف الإسلاموي(3/3) سعيد الكحل
أخطاء الحكومات الأوروبية في التعامل مع الجماعات الإسلاموية.
كل المعطيات تؤكد تزايد مخاطر التطرف الإسلاموي على أوروبا. وتتحمل الحكومات الأوربية كامل المسؤولية في هذه الوضعية. ولا يمكنها الانتصار على التطرف الإسلاموي إلا بتجاوز الأخطاء التي ظلت ترتكبها منذ عقود، ومنها:
ــ السماح للتنظيمات الإسلاموية بممارسة أنشطة الاستقطاب وجمع التبرعات وإشاعة خطاب التطرف والكراهية بكل حرية. في فرنسا رصدت السلطات حوالي (20) صندوق هبات خاص استغلتها تنظيمات الإسلام السياسي لتمويل نشاطاتها. وإثر صدور قانون مكافحة الانفصالية الذي ينص على احترام مبادئ الجمهورية، أدى التحقيق المعمق إلى منع 8 منها، ومن بينها 4 صناديق صدرت بحقها شكاوى قضائية، وهي: "الصندوق الأوروبي للنساء المسلمات"، "صندوق الكندي" وصندوق "Apogée" أو "الأوج".
 
فالسماح بجمع التبرعات وتلقي التمويلات يوسع قاعدة الاستقطابات ويزيد من وتيرتها (التيار السلفي في ألمانيا نما بأسرع ما يمكن؛ بحيث انتقل من حوالي (3800 ) شخص في عام 2011 ، إلى (12150) شخصًا في عام 2020.
 
ــ الترخيص للتنظيمات الإسلاموية بتأسيس جمعيات/منظمات تحت مسميات متعددة، منها “المركز الإسلامي في هامبورغ”، الذي تعتبره الحكومة الألمانية نفسها ذراع إيران الممدودة في أوروبا. وفي بريطانيا تم تأسيس ما يقارب (60) منظمة رغم أن “رئيس الوزراء” البريطاني الأسبق، توني بلير، وصف، في 6 سبتمبر 2021 ،“الإسلام السياسي” بأنه “تهديد أمني من الدرجة الأولى”، وحذر من أنه “سيصل إلينا، دون رادع، حتى لو تمحور بعيدًا عنا، كما حدث في 11 سبتمبر” ، مضيفا أن “الإسلام الراديكالي لا يؤمن فقط بالإسلاموية، بمعني تحويل الدين إلى عقيدة سياسية، ولكن بتبرير الكفاح، إذا لزم الأمر، الكفاح المسلح لتحقيق ذلك”. ثم جمعية “التجمع الإسلامي الألماني“DMG” ، والمركز الإسلامي في هامبورغ ” IZH”، إضافة إلى منظمة "Interaktiv Muslim "  المصنفة على أنها ذات إيديولوجية متطرفة، والتي تظاهر 1000 عنصر من أعضائها في هامبورج يوم 17 أبريل 2024 ورفعوا ملصقات مكتوب عليها: "ألمانيا " ديكتاتورية القيم" ، "الخالفة هي الحل" . وفي العموم يوجد في ألمانيا ما يقارب 960 جمعية ومركز إسلاموي. ففي برلين استحوذت مؤسسة مرتبطة بتنظيم جماعة الإخوان المسلمين تسمى “Europe Trust” على عقار في منطقة “فيدنغ” مقابل أربعة ملايين يورو. ومعلوم أن تقريرا بحثيا نُشر في أكتوبر 2021 بعنوان "شبكة الشبكات: الإخوان المسلمون في أوروبا"، أشار إلى أن الهدف النهائي للإخوان المسلمين هو بناء دولة إسلامية على أساس الشريعة الإسلامية. وأن الجماعة ليست من مؤيدي الديمقراطية والقيم الغربية، وأن أيديولوجيتها متطرفة وخطيرة، مما يقوض الأمن القومي والتماسك الاجتماعي. كل هذه المعطيات المتوفرة للحكومات الأوروبية بخصوص خطورة الإسلام السياسي على هوية شعوبها وأمنها وقيمها الديمقراطية لم تدفعها إلى مراجعة قوانين تأسيس الجمعيات وطرق تمويلها.
 
ــ السماح بالتمويل الخارجي لفائدة جماعات الإسلام السياسي الذي تستغله في توسيع أنشطتها وقواعدها التنظيمية وحشد المتعاطفين واقتناء العقارات؛ الأمر الذي يقوي نفوذ هذه التنظيمات ويزيد من مقاومة الاندماج في المجتمعات الأوربية. على سبيل المثال، الحكومة الألمانية لا تملك تفاصيل حول استحواذ جماعة الإخوان المسلمين على عقار في برلين Berlin-Wedding مقابل (4 مليون يورو) دفعته مؤسسة Europe   Trust وهي مؤسسة مرتبطة بجماعة الإخوان.
 
ــ عدم إخضاع صرف الإعانات الممنوحة للتنظيمات الإسلاموية للمراقبة. أثبتت Global Watch Analysis ، في 7يناير 2022 عن طريق التدقيق المتبادل، أن الجمعيات الإسلاموية المنتسبة لجماعة الإخوان المسلمين استفادت من (64) مليون يورو من الإعانات العامة الممنوحة من قبل المفوضية الأوروبية ومجلس أوروبا منذ عام 2007. وتشير التقديرات إلى أن تنظيم “الإخوان” يمتلك ثروات مالية تتراوح بين (8 – 10) مليارات دولار.
 
ــ حماية واحتضان المتطرفين منظّرين ونشطاء إرهابيين. إن المهاجرين العرب والمسلمين لم يهاجروا إلى أوروبا لإقامة شرع الله أو إقامة دولة الخلافة. لكن إعطاء الحرية لشيوخ التطرف لتأطير الجالية المسلمة واستغلال المساجد والجمعيات لنشر عقائد الغلو والتكفير والحريض على الكراهية ومناهضة القيم الإنسانية، حوّل فئات من أفراد الجالية المسلمة إلى متطرفين ضحايا تلك العقائد. فالحكومات الأوروبية تحمي الشيوخ والعناصر المتطرفة والإرهابية من عدالة دولهم الأصلية وترفض ترحيلهم (الحكومة الألمانية ترفض تسليم الإرهابي حاجب إلى المغرب). الأمر الذي يشجع تلك العناصر على التمادي في نشر عقائد التطرف والتكفير، وفي نفس الوقت، مهاجمة دولها الأصلية وتسفيه جهودها في محاربة التطرف. وقد تتذرع الحكومات الأوروبية بسمو القانون وأحكام القضاء، لكنها لا تدرك جيدا أن الأمن هو أساس العدل. فإذا انعدم الأمن تعطل القانون واختفى العدل.
 
ــ تواطؤ الحكومات والأحزاب مع تنظيمات الإسلام السياسي: وذلك من أجل استغلالها لأهداف سياسية، بحيث دخلت معها في شراكات تتعلق بالقيام بأدوار معينة منها الضغط على الحكومات العربية مقابل دعمها ماليا وتوفير الحماية لها. وخير مثال على هذا، تواطؤ الحكومات البريطانية على مدى عقود طويلة مع الأحزاب والجماعات الإسلاموية – بما فيها التنظيمات المتطرفة – بهدف تحقيق ما يسمى المصلحة الوطنية في الخارج. وشمل هذا التواطؤ الاستفادة من التداريب والتمويل مقابل الترويج لأهداف محددة للسياسة الخارجية.  فقد تسترت عليها، وعملت إلى جانبها، وأحياناً دربتها ومولتها، بغية الترويج لأهداف محددة للسياسة الخارجية. وهذا ما سماه مارك كورتيس “بالزواج المصلحة” في كتابه “شؤون سرية: تحالف بريطانيا مع الإسلام الراديكالي”. وفي بلجيكا تم ترشيح أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، إحسان حواش، في الانتخابات البرلمانية سنة 2021 من قبل حزب الخضر السياسي Ecolo، رغم أن هيئة الأمن الوطني البلجيكية في تقريرها السنوي الصادر في يوليو 2021، اعتبرت أن “التطرف الديني وبشكل خاص التيار المدخلي والإسلام السياسي التركي والإخوان المسلمين، يمثلون التهديد الأول بالنسبة لبلجيكا”.
 
ــ عدم الفصل بين السجناء المتطرفين ومعتقلي الحق العام، الأمر الذي يستغله المتطرفون في استقطاب السجناء ذوي السوابق. فقد كشف المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي في تقريره الذي درس شخصيات جهاديين أوروبيين تم تجنيدهم منذ 2011، أن نشوء تنظيم “داعش” ساهم في تقوية الرابط بين الجريمة والإرهاب، وأن “داعش” بدلا من أن يتوجه إلى الجامعات أو المؤسسات الدينية، فإنه يتحول بشكل متزايد إلى “الغيتوهات” والسجون و”الطبقات الدنيا” لتجنيد أشخاص لهم ماض إجرامي. وكشف تحليل شخصيات 79 جهاديا أوروبيا لهم ماض إجرامي، من بلجيكا وبريطانيا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وهولندا، أن 57% ممن شملتهم الدراسة كانوا في السجون قبل أن يجنحوا إلى التطرف، فيما 27% على الأقل ممن أمضوا عقوبة في السجن، جنحوا نحو التطرف وهم خلف القضبان.
 
ــ اعتبار الفتوى رأيا تدخل ضمن حرية التعبير. لتعلم الحكومات الأوروبية أن الفتوى هي توقيع باسم الله تترتب عنها أحكام فقهية خطيرة ملزِة، لمن علم بها، بتطبيقها. أما الرأي فلا يلزم أحدا، وهو محط نقد واختلاف، بينما الفتوى تصير، عند صدورها، قانونا إلهيا واجب التنفيذ. فالذين التحقوا بداعش، أو نفذوا عمليات إرهابية لم يولَدوا متطرفين ولا إرهابيين، بل تم استقطابهم وغسل أدمغتهم، ومن ثم تجنيدهم لتنفيذ عمليات إرهابية.
 
 ــ تمكين التنظيمات الإسلاموية من السيطرة على المساجد وترويج الخطاب الديني المتطرف والمحرض على الكراهية والتكفير ومناهضة حقوق الإنسان والقيم الغربية. لهذا فإن الدول الأوربية مطالبة بالانفتاح على تجربة المغرب في إعادة هيكلة الحقل الديني على مستوى إدارة المساجد وتعيين الخطباء وضبط الخطاب الديني لتحصينه من الغلو والتطرف وردع الغلاة والتكفيريين ومنعهم من اعتلاء المنابر أو الإفتاء بما يناقض أو يتهدد هوية الشعب المغربي وثوابته وقيمه الدينية والاجتماعية. في ألمانيا يوجد 2600 مسجد تشرف على غالبيتها جمعيات (حوالي 2000 جمعية) مرتبطة بتركيا وبتنظيم جماعة الإخوان التي يدعمها أردوغان. ولن تستطيع الدول الأوروبية من السيطرة على حالة التسيّب في الحقل الديني إلا بجعله قطاعا حكوميا عبر تأميمه وتحريره من هيمنة التنظيمات الإسلاموية أو من التبعية لجهات خارجية، وذلك بتشكيل هيئة رسمية يعهد إليها تنظيم الحقل الديني وتسييره والإشراف على تكوين الأئمة وتعيين الخطباء وفق معايير محددة (الاعتدال والوسطية، التشبع بقيم الاختلاف والحوار والتعايش والتسامح وثقافة حقوق الإنسان، نبذ العنف والتكفير والكراهية، مناهضة التطرف والإرهاب، الدعوة إلى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، القبول بالديمقراطية قيما وأنظمة وتشريعات).
 
أمام موجة تصاعد العداء للمسلمين، وفي نفس الوقت تزايد التهديدات الإرهابية واتساع مظاهر التطرف ومناهضة القيم الغربية بتحريض من تنظيمات الإسلام السياسي التي تستغل القوانين الأوربية للانقضاض على قيم العلمانية وحقوق الإنسان، فإن أوروبا، التي كانت مهدا لتلك الحقوق، ستفرض عليها ظاهرة التطرف الديني مراجعة قوانينها بما يضمن أمنها وسلامة مواطنيها. لقد انتقلت الحرب على التطرف والإرهاب إلى عمق أوروبا وداخل مؤسساتها؛ الأمر الذي لا يمكن حسمه عسكريا. إن أخطر ما تواجهه أوروبا هو إستراتيجية الأسلمة التي تتبعها تنظيمات الإسلام السياسي، والتي تستهدف، ليس فقط البنية الديمغرافية للمجتمعات الغربية، ولكن أساسا هويتها الثقافية ونسيجها المجتمعي وقيمها الحضارية؛ وهي التي جعلت آلافا من شباب أوروبا يتخلون عن كل المكتسبات المدنية والحضرية ويلتحقون بداعش لإقامة "دولة الخلافة"، وآخرون منهم يسعون لإقامتها في دولهم. قد لا يفيد أوروبا منع الهجرة أو ترحيل المهاجرين طالما ظلت بها محاضن التطرف نشطة تستقطب وتجنّد الأبناء الأصليين إلى جانب المقيمين والماهجرين.