انتبه المغرب مبكرا إلى العائد المعنوي والسياسي للانخراط الدولي في تجفيف منابع جريمة الاتجار بالبشر، ومكافحة مافيات الهجرة السرية، والاتجار العابر للقارات في المخدرات بشتى أنواعها. كما انتبه مبكرا إلى أن هذه الجرائم تمثل محاضن طبيعية للإرهاب والإرهابيين وتجار السلاح، خاصة في سياق إقليمي وجيوسياسي تطغى عليه القلاقل والحروب والتوترات.
تبعا لذلك، يواصل المغرب بدأب كبير مراكمة الخبرة، عبر مجموعة من التدابير الأمنية الميدانية والإجراءات القانونية، والديبلوماسية، عبر الاشتغال داخل إطارات التعاون التي يتيحها المنتظم الدولي، مما جعل بلادنا تحظى بثقة كبيرة من لدن العديد من الأطراف، من خلال المواجهة اليومية لمافيات الهجرة السرية، وأباطرة الاتجار الدولي في المخدرات، والشبكات التي ترعى الاتجار بالبشر، إفريقيا ودوليا.
والملاحظ أن جميع اللقاءات التي جمعت المغرب - في شخص وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت - بالدول الأوربية أو العربية أو الإفريقية، تمحورت حول مكافحة الهجرة السرية ومحاربة عصابات الاتجار في المخدرات وشبكات الاتجار في البشر والجماعات الإرهابية، خاصة أن الموقع الجغرافي للمغرب المتاخم لأوروبا حوله إلى قبلة لكل الراغبين في الخلاص من دول الساحل وغرب إفريقيا التي يسيطر عليها الفقر والجفاف والتناحرات القبلية والانقلابات العسكرية، بل أصبح وجهة مفضلة لمواطني بعض دول الشرق الأوسط وآسيا، أملا في "الإبحار" غير الشرعي نحو دول القارة العجوز، مما جعل سواحلنا، وهي بطول 3500 كلم، بؤرة أمنية ساخنة تكاد لا تهدأ، الأمر الذي يتطلب يقظة تامة واعتمادات مالية ولوجستيكية مهمة.
ليس المغرب بلدا مصدرا للهجرة السرية، كما تحاول الأوساط المعادية تقديمه للرأي العام الدولي. والحقيقة أن الفخ الاستعماري هو الذي يعلن عن نفسه بقوة في هذا الشأن. ذلك أن وجود ثغرين مغربين محتلين من طرف إسبانيا في شمال المغرب، وعلى رقعته الجغرافية، يغري آلاف المهاجرين غير النظاميين بخوض مغامرة «الإبحار غير الشرعي» للوصول إلى أوروبا، ويتعلق الأمر بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين الخاضعتين للشرط الأوروبي الذي يصر في كل مناسبة على اعتبارهما جزئين لا يتجزءان من التراب الأوروبي، ويسري عليهما ما يسري على مدريد أو باريس أو برلين أو ستوكهولم أو بروكسيل أو فيينا أو أمستردام أو ميلانو..
إن الشرط الأوروبي الذي تخضع له المدينتان المحتلتان هو الذي يغري، بالفعل، العديد من المهاجرين، سواء الأفارقة أو الأسيويين، بقطع آلاف الكيلومترات وتسلل عشرات الحدود والفيافي والقفار، لدخول المغرب بشكل غير شرعي، ومنه الاستبسال في ترقب فرصة خوض مغامرة اجتياز الحاجز الحديدي لمدينتي سبتة أو مليلية المحتلتين، بأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو الحياة نفسها، ما دام أن التصور السائد لدى جميع المهاجرين السريين هو أن الوصول إلى هاتين المدينتين يعني معانقة «الإلدورادو الأوروبي»، خاصة أن الأوروبيين، وخاصة جمعياتهم الحقوقية والمدنية والإغاثية، يتعاملون معهم باهتمام «إنساني» بالغ، ويمنحونهم الرعاية ، بل يتابعون حالاتهم إلى غاية تسوية وضعيتهم القانونية، ومن تم يمكن لهذا المهاجر أن يتوجه نحو إسبانيا أو إيطاليا أو أي دولة أوروبية أخرى، وما إن يطمئن المهاجر إلى تحسن أوضاعه، حتى يقوم بتشجيع آخرين من أهله وذويه وأصدقائه على الالتحاق به. لدرجة أن المغرب سجل خلال السنوات الخمس الماضية 100 محاولة اقتحام لسياج سبتة ومليلية المحتلتين من طرف المهاجرين الأفارقة والأسيويين.
فماذا يتعين على المغرب أن يقوم به؟ وما هي المقاربة التي تطالب بها أوروبا، هل المقاربة الأمنية التي تطالب المغرب بلعب دور دركي اوربا ومنع المهاجرين السريين من الاقتراب من الحاجز الحديدي للمدينتين السليبتين؟ أم المقاربة الحقوقية والاجتماعية التي تحاول أن «تكشف» عن الوجه الإنساني لأوروبا؟
في كل الحالات، تمكن المغرب من بذل كل طاقاته لتأمين حدوده، من لكويرة إلى السعيدية، وذلك عبر تثبيت الآلاف من أفراد القوة العمومية المختلفة، برا وبحرا «القوات المسلحة الملكية، القوات المساعدة، الدرك الملكي، خفر السواحل، الشرطة..». لكن المشكل الكبير يبقى هو أن المغرب ما زال يتحمل لوحده عمليا عبء الكلفة الباهضة لهذا الأمر، إذ لا يتلقى أي مساعدة مالية تستحق الذكر من المعنيين المباشرين بالهجرة السرية وتبعاتها الأمنية والاجتماعية وحتى السياسية، اللهم بعض «الفتات الهزيل» الذي يمنحه الاتحاد الأوروبي أو بعض المساعدات الفردية المعزولة من دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا، والتي لا ترقى إلى مستوى المجهودات المالية واللوجستيكية والبشرية المرهقة التي يبذلها المغرب. وهي الكلفة التي تنهك ميزانية المغرب بالتهام 200 مليون أور، سنويا.
المجهودات الكبيرة التي قام بها المغرب لتجفيف متابع الهجرة السرية أثمرت عن تفكيك ما بين 180 و250 شبكة للاتجار بالبشر كل عام. وإحباط أكثر من 60 ألف محاولة للهجرة غير المشروعة كل عام. أي في سبع سنوات تمكن المغرب من تفكيك أكثر من 1500 شبكة للهجرة السرية، وأحبط أزيد من 366 ألف محاولة للهجرة غير المشروعة خلال نفس المدة.
لقد أبان المغرب عن حسن نيته حين انخرط في جهود مكافحة مافيات الاتجار في البشر وشبكات التهجير السري.
كما أطلق عمليتين للتسوية القانونية لوضعية المهاجرين سنة 2014 وأخرى سنة 2016، أسفرت عن تسوية وضعية حوالي 50 ألف حالة، مع إيلاء اهتمام خاص بالنساء والأطفال، فضلا عن حرصه على الاشتغال داخل إطارات التعاون التي يتيحها المنتظم الدولي.
في هذا السياق، إذن، يندرج انتخاب المغرب للرئاسة المشتركة للدورة الرابعة عشرة لاجتماع مجموعة العمل حول الاتجار بالبشر، التي ستنعقد بمقر الأمم المتحدة بفيينا يومي 8 و9 يوليوز 2024، إلى جانب هولندا؛ وهو ما يعكس “مكانة المغرب دوليا وأمميا”، كما يعكس العمل الجاد والدؤوب للآلية الوطنية المعنية بمكافحة الاتجار بالبشر، من خلال الانخراط الكامل في الجهود الأممية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية.
وليست هذ المرة الأولى التي ينتخب فيها المغرب، سواء قاريا وإفريقيا أو أمميا ودوليا، كما هو الشأن بالمنتدى العالمي للهجرة والتنمية الذي ترأسه المغرب مناصفة مع ألمانيا سنتي 2017-2018 .
جهود المغرب لم تقتصر على مكافحة الاتجار في البشر والهجرة السرية، بل تعدت ذلك إلى الانخراط في جهود مكافحة الاتجار الدولي في المخدرات، هو الذي كان ينظر إليه كأكبر دولة منتجة للقنب الهندي في العالم.
فمنذ 1994، تبنى المغرب خطة لإنجاح سياسة مكافحة المخدرات، وذلك ببذل مجهودات كبيرة لتطوير البنيات الأساسية لفك العزلة عن المنطقة الشمالية، وتشجيع الاستثمارات المنتجة للقيام باستبدال تدريجي لزراعة الكيف وتنمية القطاعات الاجتماعية لإعادة تأهيل السكان المحليين؛ وهي الجهود التي كللت بالنجاح، ما دامت مجموعة من الأقاليم قد أعلنت خالية من زراعة القنب الهندي، مثل العرائش وتاونات.. إلخ. ولم يتبق إلا المنطقة التاريخية بكتامة وبعض النواحي بشفشاون. كما أبرم المغرب اتفاقية مع إسبانيا بتاريخ 21 أبريل 1987، لتبادل المعلومات حول البرامج التجريبية والبرامج العامة الهادفة إلى تجنب خطر المخدرات، ثم اتفاقية ثانية مع فرنسا بتاريخ 30 ماي 2000، لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات.
كما تشير الأرقام الرسمية إلى أن المغرب ضبط خلال الفترة 2023-2019 أزيد من 8 ملايين قرص من حبوب الهلوسة وحجز 1753 طن من الحشيش و1406 طن من عشبة القنب الهندي و5439 كلغ من الكوكايين و29 كلغ من الهيروين.
ولم تتوقف جهود المغرب عند هذا الحد، إذ تبنى قبل 3 سنوات قانونا ينظم زراعة القنب الهندي لأغراض طبية وصناعية، بهدف استغلال الفرص الاقتصادية التي تتيحها السوق العالمية «من المتوقع أن تبلغ عائدات السوق العالمية للقنب الهندي 44.4 مليار دولار عام 2024»، حيث يتم إخضاع عمليات الزراعة والحصاد والتصدير لمراقبة صارمة، مما حول المغرب إلى منطقة جاذبية اقتصادية هو الذي كانت يشار إلية بكونه البلد الذي يتصدر إنتاج الحشيش، خاصة أن زراعة القنب الهندي باتت تتوافق مع الأهداف الإنمائية للاتحاد الأوروبي وسياسة الدواء الدولية.
بل لقد أنتخب المغرب رئيسا للهيئة الدولية لمراقبة المخدرات، وأعيد انتخابه مؤخرا (ماي 2024) رئيسا للهيئة نفسها. وهذا تحول كبير، كما هو أنه تعبير عن نجاعة المقاربة المغربية في التعاون الدولي من أجل سد الطريق على أباطرة المخدرات وزعماء الكارتيلات في أمريكا اللاتينية، خاصة أن بلادنا أصبحت تعاني من عبور المخدرات الصلبة (الكوكايين القادم من أمريكا اللاتينية، والهيروين القادم من دول آسيا)، إلى أوروبا عبر نشاط عملاء الكارتيلات التي تستغل الوضع الهش والمتردي لدول غرب إفريقيا التي تعيش بين الفينة والأخرى وضع "اللادولة"، الأمر الذي حول المنطقة إلى منصة لترويج السموم عبر تسلل مجموعة من الشبكات للمرور نحو أوروبا عبر بوابة المغرب. وهذا الوضع جعل المغرب يعاني الأمرين من أجل ملاحقة المهربين الدوليين والمتعاونين معهم، ومع ذلك بذل مجهودا جبارا في تجفيف منابع التهريب ومواجهة مافيات المخدرات. غير أن المساعدات التي تقدمها له الدول الأوروبية مساعدات هزيلة لا ترقى إلى الشعارات التي يرفعها الأوروبيون.
إن بلادنا الآن تعد من ضمن إحدى أهم الدول الفاعلة وطرفا محوريا في الحملة العالمية لمكافحة الاتجار بالبشر والمخدرات والهجرة السرية، تقوم بعمل رائد يجب أن تعترف به دول أوروبا، وأن تقدره حق قدره، من خلال منظور يتميز بالشمول على المستوى المالي والأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
على أوروبا أن تعبر عن امتنانها للمغرب لأنه استطاع بحكامته الأمنية وبإنجازاته الحقوقية والسياسية والدبلوماسية، وعبر مؤسساته الإستراتيجية والأمنية، أن يتحول إلى خندق حقيقي لاعتراض المهاجرين السريين وشبكات الاتجار بالبشر وأباطرة المخدرات وزعماء الإرهاب.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"
